Tuesday, November 5, 2013

"مرسى فاطمة".. انتظار ما لا يجيء

 
 
مرسى فاطمة".. انتظار ما لا يجيء
عبدالله ثابت
 
• "تتماهى سلمى مع هيلين ملس، مطربتها المفضلة، فتشرع النافذة على حدائق من السحر، حين تغني سلمى لا يعود يشغلني شيءٌ غير ألقٍ يشع من عينيها ليملأ روحي بالبهجة، حين تغني يتسرب غناؤها إلى الماء والأشجار وحجارة الطريق".. هكذا كانت تغني سلمى في رواية (مرسى فاطمة) للروائي الإرتيري حجي جابر، الصادرة عن المركز الثقافي العربي في بيروت. ينقل حجي في روايته، المزدحمة بخليط الحيوات الغريبة والمتناقضة والمخيفة والجميلة والتعسة معاً في جزءٍ مرهقٍ من أفريقيا، حكاية شاب إرتيري يغادر قريته الجبلية الصغيرة منتقلاً إلى "أسمرا"، والتي كان يهرب من صدمة ضجيجها إلى "مرسى فاطمة"، منتظراً حبيبته التي لا تأتي.
• لا يكف صاحب سمراويت، روايته الأولى، أبداً عن البحث عن الوطن الضائع والحبيبة المفقودة، ففي "مرسى فاطمة" يرصد حجي التعب الذي يلاحق الإنسان الإرتيري في بيئة ما زالت تعاني من آثار الاحتلال الإيطالي بالأمس، وتعاني من العائدين بالتطرف الديني من إحدى الجامعات الإسلامية، مروراً بالهرب واللجوء والاتجار بالبشر، ومشاهد على امتداد الرواية تجسد صعوبة الحياة وقسوتها. كتب حجي "إذا كنا لاجئين فهذا لا يجعل أرواحنا رخيصة. نهرب من بلادنا فيذيقنا الشفتا صنوف العذاب. نصل المخيم فنجد العصابات في انتظارنا، هل يعقل أن تصل بهم الجرأة لاختطاف النساء من وسط المخيم الذي لا يستطيع أحد منا مغادرته لشدة الحراسة على جوانبه الأربعة؟!"
• حجي جابر، روائي إرتيري، ولد بمدينة "مصوع" الساحلية في عام 1976، عاش جزءاً من حياته في السعودية، بمدينة جدة، عمل في الصحافة السعودية، ثم انتقل إلى دولة قطر، ليعمل في غرفة الأخبار بقناة الجزيرة. أصدر روايته "مرسى فاطمة" مطلع هذا العام، أما روايته الأولى "سمراويت" فهي الحائزة على جائزة الشارقة للإبداع العربي لعام 2012
• في الصفحات الأخيرة من "مرسى فاطمة" كتب حجي، بجمال ودقة بالغين؛ "كانت سلمى لا تزال تبتسم. فكرتُ في تمزيق الصورة، في بعثرتها إلى أجزاء متناهية الصغر، بحيث لا يعود ممكناً إعادتها لهيئتها الأولى، تلك الهيئة التي لا تتورع عن نبش الألم داخلي كلما ركن إلى خدر ما. فكرت على الأقل في إخفاء ابتسامتها التي لا تناسب حالي، في طمسها ولو مؤقتاً حتى أتمكن من فهمها في هذا الجو الملبّد بالقتامة".
 

حجي جابر: الكتابة عمل شاق، تزداد مشقته كلما وعينا به أكثر


 
 
 
حجي جابر: الكتابة عمل شاق، تزداد مشقته كلما وعينا به أكثر
 
آراء - إيمان الودعاني

 حجي جابر، صحفي وروائي إرتري من مواليد مدينة مصوع الساحلية 1976، حاصل على بكالوريوس علوم اتصال، وعمل في الصحافة السعودية لسنوات، بالإضافة إلى عمله كمراسلٍ للتلفزيون الألماني "دوبتشه فيلله" في السعودية. حصلت روايته "سمراويت" على جائزة الشارقة للإبداع العربي 2012، وصدر له مؤخرا في 2013 رواية "مرسى فاطمة" عن المركز الثقافي العربي. أعمال الكاتب تتحدث عن نفسها، ولكن الكاتب وحده يستطيع أن يخبرنا أن رحلته المذهلة في الكتابة. عن بهاء التجربة وآلامها وانعطافاتها المفاجئة، عن طقوسه وعاداته وما يضطر إلى فعله لكي ينتج نصّه على النحو المطلوب، بالإضافة إلى تلك البصيرة العميقة التي تتفجر في لحظة المفاضلة بين كلمة وأخرى، لأن الكتابة هي في النهاية عملية بناء تحدث على مهل. وهكذا كان هذا اللقاء:

ماهي العوامل التي تحدد رضاك عن النص من عدمه؟ وإلى أين ينتهي النص في الحالتين؟

 لا أستطيع تحديد ماهية الشيء الذي يقف خلف احساسي الداخلي بالعمل. ثمة معيار صارم يطلّ على النص أثناء التفكير فيه والبدء في كتابته، ثم يقترب أكثر أثناء مراجعته، لأجده يستولي على كل شيء قبيل الدفع بالعمل إلى الناشر. هذا الأمر يحدث مع الخطوط العريضة ثم ينفذ ليصل إلى كل جملة ويستقر أخيراً عند الكلمات، لأغرق في حيرة الاختيار بين كلمتين تؤديان ذات المعنى غير أني لا أعرف أيهما أقرب إليّ، أو بالأحرى أيهما خرجت مني بالفعل. ورغم أني محاط بعدد من الأصدقاء الرائعين الذين يعيدون قراءة نصي ويمطرونني بالملاحظات كمحاولة أخيرة لتحقيق حالة الرضا، فإن ذلك يبقى معقودا بأن الرضا الكامل عن أي نص، عصيّ على البلوغ. ثمة رغبة لا تنتهي بالصعود بالنص إلى الأعلى في كل مرة.بين "سمراويت" و "مرسى فاطمة" ما الذي تغير في اسلوب حجي جابر؟ و ما هي العوامل التي أدت إلى ذلك؟ برأيي أن ثمة مسافة معتبرة من النضج بين العملين. سمراويت عمل أول، كتبته بروحي لكن بأيد مرتجفة بعض الشيء. أحبه كثيرون، لكني في المقابل جنيت من ورائه دروساً هائلة في الكتابة، استثمرتها في مرسى فاطمة. وما حدث مع سمراويت سيحدث مع مرسى فاطمة، سأصغي لكل ردود الأفعال، لكل الانطباعات، لكل الانتقادات، وأتعلم. لذا حين أتحدث عن النضج، فأنا أقصد به تلك المرحلة الطبيعية من التطور التي ترافق الانتقال في الزمن بكل ما يصاحبه من خبرات.

هل هناك اختلاف بالجهد المبذول في كتابة الروايتين؟ كيف؟

النضج الذي تحدّثتُ عنه لا يجعل الأمور أسهل. برأيي أنه يزيدها صعوبة. الكتابة عمل شاق، وتزداد مشقته كلما وعينا به أكثر. هناك بحث دائم عن الخلق والفرادة، مع ما يصاحب ذلك من قلق وعناء. كما أن الجهد الأكبر عادة ما يسبق الكتابة ذاتها، حين يغرق الكاتب في البحث عن فكرة، ثم في محاولة إيجاد الثوب المناسب الذي ستخرج به. يبدو الأمر كمن يتسلق جبلا وعراً، ليرى أكبر مساحة ممكنة تحته. فهو لا يكتفي من الصعود مع كل العنت الذي يلاقيه، لأنه مسكون أكثر بالمساحات التي سيمتلكها.

هل لديك طقوس معينة للكتابة؟ ماهي؟

 لا أعرف. مع تقدمي في هذا العالم أنا أكتشف ذاتي، ما ترغبه وما تأباه. عرفت مثلا أنني لا أستطيع الكتابة على وقع الموسيقى مهما بدت خافتة. أشعر بأن الموسيقى أكثر أنانية، فهي لا تلتزم الحواف ولا الهوامش. حين تحضر تستأثر بالمكان ولا تسمح لغيرها بالمشاركة. لكن هذا لا يعني أني أرتاح للكتابة في الأماكن منزوعة الأصوات، فقد كتبت سمراويت وأجزاء كبيرة من مرسى فاطمة في أجواء صاخبة بعض الشيء، حيث تتداخل أصوات كثيرين لتصنع موسيقاها الخاصة!

ما الذي يدفعك للكتابة؟

أنا كاتب مغرض، وغرضي هو إرتريا. أعرف أني هنا أصطدم بالذين يفضلون الأدب خاليا من شوائب السياسة. لكني لا أستطيع أن أترك هذا الكم الهائل من الآلام خلفي. كل ما أستطيع فعله هو أن أكون أكثر حرصا على ألا يطغى غرضي على جماليات الكتابة، على ألا أحوّل أعمالي لمناشير سياسية. غير ذلك ستظل إرتريا أمامي وخلفي كلما اقترفت فعل الكتابة. يلي ذلك حالة المتعة التي اكتشفتها وأنا أؤدي غرضي. الكتابة تصنع عالما موازيا نكون نحن أصحابه. أولسنا نتمنى دائما أن تطاوعنا الأشياء؟ أن تسير على هوانا؟ أن ترسو الأمنيات في شواطئنا؟ في الكتابة يحدث كل ذلك لنصبح نحن أسياد اللعبة.

يلاحظ القارئ حضور إرتريا وطن حجي جابر في الروايتين. ما الفرق بين أن يكتب الكاتب من خلال هويته و ظروفه الخاصة و بين الكتابة من هوية مختلفة تماما؟

برأيي أن الجميع ينطلق من هوية ما في الكتابة، أيا كانت تلك الهوية. قد تكون الوطن في حالتي، وقد تكون أمراً آخر في حالات الآخرين. نحن نكتب لنعالج عطبا أصاب أرواحنا بشكل أو بآخر. روحي معطوبة من جهة إرتريا، وحتى تبرأ تماما سأظل ألتفت لوجعي. أما إذا كنت تقصدين الفرق بين الكتابة عن مكاني وأمكنة الآخرين، فأنا لا أجيد الكتابة عن بعد، وأنا هنا أقصد بالبعد مدى إحساسي بالمكان. هناك من يتساوى لديه الاحساس بمكانه وأمكنة الآخرين، لذا يتقن الكتابة عنهما بذات المستوى، وأنا أغبطه على ذلك بالطبع.

من أين يستسقي حجي جابر افكاره للكتابة؟

 من كل شيء حولي. مؤخرا أصبحت مهجوسا بالناس، ملامحهم، طريقة حديثهم، كيف يغضبون أو يفرحون. كذلك ازداد اهتمامي بمتابعة الحيوانات، بالقراءة عنها والبحث عن خطوط التقائها بالبشر. أظن أني مع الوقت أنحو باتجاه التأمل أكثر، ودائما ما يعترضني سؤال كبير إن كان ما أراه أو أسمعه أو أشمه يصلح ليكون شيئا مكتوبا. لكني لا أنسى دائرتي الضيقة من الأصدقاء. حظيت برفقة رائعة تتقن الفرح والحزن وقبل ذلك كله سرد الحكايات.

ما مدى تأثير القارئ على الكاتب؟ وكيف يختلف هذا التأثير خلال مسيرة الكاتب؟

حضور القارئ معي طاغ. أدرك تماما أن هناك كتابة واحدة وقراءات شتى، لذا أمضي الكثير من الوقت في رصد وتتبع تلك القراءات، ليس بغرض الانصياع لاتجاهاتها مستقبلا، او الكتابة تحت تأثير سطوتها، وإنما لمواصلة ما بدأته، فكل قارئ يضيف وينير ويعمّق شيئا في كتابي. وبهذا يحقق فعل الكتابة أسمى مقاصده في محاولة الفهم. فهم أنفسنا والآخرين. بالطبع كان ذلك سيكون صعبا دون الوضع في الاعتبار الحالات المصاحبة للقراءة، سواء كانت توقعا مسبقا، أو منطلقا نفسيا أو أيدولوجيا وغيرها مما يتدخل في تقييم الواحد منا لأي عمل يقرأه. ما أود قوله إنني حريص على رأي القارئ وهو يرافقني بعد كتابة العمل وليس قبل ذلك. ولا أظن أن ذلك سيختلف مع تقدم الكاتب في مسيرته.

ماذا تقول لكاتب انتهى للتو من نصه الأول؟

أقول إنه لم ينته من نصه وإنما ابتدأه للتو، فمجرد أن يخرج الكتاب للعالم تبدأ عملية كتابته الحقيقية.
 
 - See more at: http://www.araa.com/article/75938#sthash.JjskJPev.dpuf
 
 

"مرسى فاطمة".. أيها الإريتري متى ينتهي عذابك؟!


 
 
 
مرسى فاطمة".. أيها الإريتري متى ينتهي عذابك؟
*عبدالله السفر
 
ما أقسى أن يَنكأَ الجرحُ نفسَهُ قبيل التئامه، أن يتلذّذَ بالتمدد في كل الاتجاهات كمن أضاعَ بوصلةَ شفائه، أن يُعرَفَ أوّلُه، دون أن يكون له آخِر ـ ص 228".. "يا لَهذا الوجع، وقد غدا كلَّ شيء ـ ص 252". في ظهيرةِ الجرح وغسقِ الوجع، يمضي حجي جابر بأبطاله في روايته "مَرسَى فاطمة" (المركز الثقافي العربي، بيروت ـ 2013) وبين أيديهم وطنٌ يتفلّت ويكادُ يغيب إلا من بقايا ذاكرةٍ هي الحرزُ يحفظُ أياماً وروائح تندى من شجرةِ الصِّبا؛ كلّما ارتقوا سلالمَ الألم وباحتْ بهم الحدودُ وتجهّمَهم الغريب.
"مَرسَى فاطمة" حكايةٌ عن الوطن: إريتريا الذي أنجزَ استقلاله لكنه لم يظفر بالتغيير؛ عن المواطنين الضحايا في معسكر التجنيد الإجباري داخل الوطن؛ عن المواطنين المتروكين في مخيمات اللجوء تنهبُهُم عصابات الاتّجار بالبشر وبأعضائهم أحياءً وأمواتاً. في هذا المرجل البشع داخليّاً وخارجيّاً، تتخلّقُ الحكاية التي وضعَ لها جابر إطاراً وأثراً يقرأ في خيوطه وخطوطه العسفَ والاستبداد والاستغلال وتأبيد الألم. البطل معلّم اللغة العربية ينزل من قريته إلى العاصمة "أسمرا"، بعد اشتداد وطأة الدولة على التعليم الديني واعتقال معلميه بشبهة الإرهاب، ليعمل في متجر للأقمشة عند الحاج برهان. وهناك يتعرّف على أغنيته وعلى قلبه؛ سلمى طالبة التعليم الثانوي التي يتزوّجها سرّاً وتحمل منه لكنها تغيب فجأة ولا يعرف أين ذهبت رغم السؤال والبحث في شارع "مرسى فاطمة" مكان اللقاء واشتعال الحب حيث تقع مدرستها. يظنّ أنّها رُحّلتْ إلى معسكر التجنيد في "ساوا" فيقرّ عزمه على الالتحاق بها وهو المعفي من التجنيد. تبدأ رحلة البحث المتوالية عن سلمى التي لا يجد لها أثراً في رحلة العذاب الرهيبة، ليكتشف في النهاية أنّها لم تُرحّل إلى "ساوا" وأنها كانت مختبئة في أسمرا، وعندما علمت باتجاهه للبحث عنها أيضا؛ أخذت الرحلة نفسها خلفه. دائرة من البحث المزدوج المتعاكس الاتجاه. البطل يبحث عن سلمى. سلمى تبحث عن البطل.
هذا الإطار الذي تتنزّل فيه أحداث الرواية ليس إلا حيلة سرديّة، وذريعة للكشف عن عالمٍ شديد الظلمة والظلم في الوطن حيث معسكر "ساوا" وقسوة الحياة فيه يديرها قائد الفرقة الضابط "منجوس" الذي يتعامل مع المجنّدين والمجنّدات بوحشيّة تحطّ من آدميّتهم وتعوّمهم في الانتقام والابتذال والسُّخرة لصالح الضباط الذين يتعيّشون من ريع المنصب فيما البقية تُهدَر إنسانيّتهم، فيصبح الوطن أمامهم سجناً يدفعُهم إلى الهرب مهما كان الثمن وتكلفته المدفوعة من كرامتهم وأبدانهم. وهنا المرتقى الثاني لحكاية الضحايا المدفوعين من نار الوطن إلى نارٍ أشدّ ضراوة تكويهم ويتلظّوْن منها خارج الوطن حيث العصابات على الطريق وفي الحدود.
العذاب في خطى الهاربين، الناجين موقتا. تتحلّقهم "دولة الشفتا".. بدوٌ مهرّبون يتلقون الهاربين، يتاجرون بعذاباتهم ويستغلونهم أبشع استغلال.
دورة العذاب لا تفتر في مخيم اللجوء؛ "شجراب" بالسودان نتابع أحداث حرق خيام اللاجئين لإجبارهم على الهجرة إلى إسرائيل عبر سيناء المصريّة وهناك يجري إخضاعهم للاغتصاب وسرقة أعضائهم التي تصل إلى إسرائيل قبلهم، هذا إذا لم يموتوا وسط العمليّات أو يصيدهم رصاص القنص المترصّد عبر السياج الفاصل والموصل إلى إيلات.
إذا كانت رحلة البحث تظهر مقدار الوجع الإريتري، إلا أنها تكشف مع كل محطة يصلُها البطل عن نماذج إنسانيّة هي شُعُل الأمل التي تبقى مضيئة تفتح الطريق وتنبئ عن وطنٍ يستقرُّ في الحلم وإن عاندتْهُ الوقائع. في أسمرا نجد الصديق "جبريل"، وفي معسكر ساوا نلتقي بـ"كداني" و"إلسا"، وفي "دولة الشفتا" نعثر على "أبراهام" و"زينب"، وفي مخيم شجراب يندلعُ الأمل مع "أمير" و"أم أوّاب" والطبيبة "كارلا". وإذا كنّا في كل محطة نشهد الأنياب الضارية تنشب في الجسد الإريتري وروحه، غير أنّ وقدةَ الأمل لها من يحافظ عليها ويفتح طاقةَ الاستمرار والعبور من خلال مجازٍ وصفَهُ الروائي بـ"الدائرة" التي وإن أشارت إلى التكرار سوى أنّ من ينتظم فيها لا بدّ أن يتقاطع مع غائبِهِ؛ وطناً أو حبيبة شأنَ نبتةِ الحنّاء أينما وُضِعَتْ رفعتْ رأسَها للسماء (ص 237).
* كاتب سعودي

بطل حجي جابر يغادر وطنه بحثاً عنه


 
 
 
بطل حجي جابر يغادر وطنه بحثاً عنه
سارة ضاهر 
 
 
نهاية الحلم، تبدأ رواية «مرسى فاطمة» (المركز الثقافي العربي) للكاتب الإريتري حجي جابر، الحائز جائزة «الشارقة للإبداع العربي» عن روايته «سمراويت» (2012). يستهل الكاتب روايته بهذا الحلم ليشي بالمدلول الرمزي للمشكلات والصعاب التي تنتظر البطل وحبيبته خلال مجريات السرد. وارتفع هذا الاستهلال- الذي استطاع من خلاله الكاتب أن يكثف موضوعه في شكل رمزي- بالعمل إلى مستوى الاستعارة الأدبية القادرة على اختراق حجب الزمن وعلى تلخيص وضع إنساني أليم خارج إطار اللحظة الزمنية التي تتناولها الرواية وخارج حدود الواقع الجغرافي الذي تصدر عنه.
يلعب التمهيد للرواية بهذا الحلم دوراً مهماً في بنيتها السردية، ليس فقط لأنه ينطوي على تلخيص كامل للموضوع الروائي، إذا شئنا استخدام هذا المصطلح، وإنما لكونه يستوعب أيضاً، في إطار بنيته التي تقترب من بنية الأمثولة الرمزية (اليغوريا)، بنية العمل الروائي برمته. إنه يطرح هذه البنية في شكل تراجيدي يتساوى مع طموح الرواية في تسجيل رغبة البطل في لقاء حبيبته سلمى. هكذا سافر وتغرب ظناً منه أنها سافرت، في حين أنها لا تزال في «مرسى فاطمة»، وأخذت بدورها تتعقب أثره.
تكشف رحلة البحث هذه بذور مفهوم غامض للأحداث الاجتماعية، يقترب من النظرة المادية التاريخية أو الحتمية العلمية. فكأن المؤلف أحس بأن الإنسان هو نتاج مجتمعه وظروفه التاريخية، فأتى الزمن عنصراً دائم الحضور في جوانب الرواية كلها. والزمن عند حجي جابر ليس تتابعاً لما يمكن قياسه بالدقائق أو الساعات، كما أنه ليس بالبعد الميتافيزيقي الذي يقوم كحد للوجود وكنطاق لسير الأحداث، بل إنه طاقة حية وقوة داخلية فاعلة في النفس الإنسانية.
تقع أحداث الرواية في تواريخ متسلسلة، ما عدا بعض المرات التي كان يسترجع فيها البطل لقاءاته مع حبيبته سلمى: «بينما أخذتني لحظة السعادة النادرة هذه إلى أحضان سلمى... عدت إلى خيمتي، وأنا أسترجع كيف باغتتني سلمى بفكرة مجنونة...». ويُمكن أن نلحظ ايضاً في كل مرحلة من مراحل السرد، ظهور عامل إيجابي (مساعد) يسهل أمام البطل مهمة تجاوز محنته: بداية من خلال جبريل الذي ساعده على السفر إلى «ساوا» ليلقى سلمى. ومن ثم يظهر كداني ليخلصه من هذا المكان، ويسهل له فكرة هروبه... وفي مرحلة لاحقة، تُساعده أم أو أب على تخفيف ألمه وتحمل عذاباته. وأخيراً يظهر أمير، الذي يتخلى عن عرض السفر إلى إيطاليا لمصلحة صديقه بطل الرواية. أما العامل «المعاكس» فهو عدم وجود أي أثر لحبيبته سلمى.
ويُمكن القارئ أن يلحظ حضوراً بارزاً لعنصر المكان على مسرح السرد الوجداني لصور اجتماعية أليمة: دولة «الشفتا»، حيث اعتقل في الحاوية وهي تضج بالمرضى والمستضعفين، ثم في سجن الحرس السوداني، تالياً الشجراب، حتى وصل إلى «سيناء» وأصبح على مقربة من إسرائيل التي رفض الدخول إليها، قبل أن يعود إلى نقطة الانطلاق «مرسى فاطمة». وفي رحلة القهر والسجن والتعذيب هذه، يتحول الإنسان إلى مجرد رقم. يقول أحد الجنود لأم أو أب «أنا أعرف رقمك سيدتي، ألست 601؟ أنا أسأل عن رقمَي الشابين».
تحمل رواية «مَرسى فاطمة» شهادة صريحة وجريئة في أوضاع المجتمع الذي تصوره: الحب، السجن، الفقر، الظلم، الاتجار بالبشر ...
وإن كان التحديد الكلاسيكي للرواية يقوم على سرد الحوادث المتشابكة والمتفاعلة في تطورها من العقدة الأساسية إلى الهيكل أو النهاية. نرى أن حجي جابر تحرر من كلاسيكية هذا التحديد ليجعل من مقدمة روايته، أو من إطار واضح الزمان والمكان، موقفاً وجدانياً يخطر عبره أشخاص يستمدون حيويتهم من عاطفة حب تعصف بقلوبهم، لا مما يفرضه السرد الروائي المتدرج، وتتراءى من خلاله أحداث تولد وتموت بين صفحات الكتاب. ففي الرواية نماذج بشرية حية، يُبرز الكاتب نتوءات شخصياتها بحركة، أو مناجاة، أو حوار قصير. ويمر قلمه على مجتمعه بوصف يتضمن ما يتضمنه من وعي للحقيقة وللواقع المفجع، ما يسبب هواجس لـ «أنا» المواطن، الذي يبحث عن خشبة خلاص في بلاده. وقد تجسدت، هنا في سلمى، التي هي كما يروي البطل «حلم بحجم الوطن، بين يديها أشعر بالأمان، ولجبينها الأسمر أنتمي. سلمى لغتي وحدودي وخريطة وعيي واحتياجاتي».
إن قارئ روايات «حجي جابر»، يُدرك أن هذا الكاتب متمكن من الأصول الروائية، الكلاسيكية منها والحديثة. وفي «مرسى فاطمة»، لم يتفنن الكاتب في موضوعه، بل قدم ببساطة موضوعاً عادياً يلم به كل مَن عاش في تلك البلاد.
وإن كانت الرواية تقوم على حدث واحد، هو غياب سلمى المفاجئ، إلا أن الكاتب قدم صوراً متناثرة من حياة بلده الذي عاش فيه... كانت تلك الصور عبارة عن لوحات تعكس حوادث ووقائع حصلت هنا وهناك على أرض بلاده. أما عندما تنتهي الرواية، فتخرج فارغ الرأس من كل هذا، ولا تسيطر عليك إلا صورة واحدة وشاملة: صورة مواطن يبحث عن وطن له.

حجي جابر للقدس العربي: الشعر سابق على الرواية في إرتريا






أجرى الحوار محمد مسوكر:
على الساحل الغربي للبحر الاحمر يطغى السياسي على باقي تفاصيل المشهد الانساني الزاخر بالثقافة، فينتشر المصطلح السياسي ‘القرن الافريقي’ ليحجب الصورة.
الروائي الاريتري حجي جابر ابن هذا الساحل، مواليد مدينة مصوع، ونشأ وتربى في مدينة جدة السعودية على الساحل الشرقي للبحر، وصاحب رواية ‘سمراويت’ التي نالت جائزة الشارقة 2012 وبمناسبة صدور روايته الثانية ‘مرسى فاطمة’ وكلاهما صدرتا عن المركز الثقافي العربي التقته ‘القدس العربي’ في هذا الحوار:


‘ الأدب العربي في إفريقيا يصنف ضمن مكتسبات اللغة العربية عبر الاجتهادات الفردية او أنه حاضر بضرورات الدين الاسلامي، هل القرن الافريقي يقرأ في ذات السياق أم أن الامر له خصائصه المغايرة؟
‘ سأتحدث هنا عن اريتريا لأن ثمة تعقيدات في الحديث عن القرن الإفريقي ككتلة واحدة.بظني أن لاريتريا خصوصية ما في إفريقيا عموما فيما يتصل باللغة العربية، فهي لغة رسمية في البلاد وحضورها أساسي في النسيج الاجتماعي والثقافي، وتتحدث بها شريحة واسعة، كما تدخل مفرداتها في تكوين معظم اللغات المحلية الاريترية الأخرى. ساهم في ذلك الهجرات العربية الواسعة من الجزيرة العربية إلى اريتريا، واحتكاك الإريتريين وسكان السواحل بالخصوص بمحيطهم العربي. وعليه فالأدب العربي قديم قدم العربية في اريتريا وإن كان قد اتخذ أشكالا عدة نحت باتجاه الأدب الشفاهي قبل أن يبدأ تدوينه. ومرور هذا الأدب بمراحل خفوت لأسباب كثيرة لا ينحدر به ليكون صنيعة اجتهادات فردية، أو حاضرا فقط لضرورات دينية.
‘ القرن الافريقي تعريف سياسي هل يصلح أن يكون هوية ثقافية يعرف بها الادب.
‘ باعتقادي أن القرن الإفريقي مصطلح يتوقف عند حدوده السياسية ولا يتعداه ليشمل الهوية الثقافية. فرغم محدودية عدد الدول المنضوية تحت هذا التعريف فإنها تزخر بلغات وهويات وثقافات شتى، قد تأخذ شكلا تنافسيا يصل لحد الصراع بعض الأحيان داخل البلد الواحد ناهيك عن مجمل المنطقة. تدخل في ذلك عوامل عدة قبلية ودينية وبعض ما خلفه الاستعمار. اريتريا وحدها على سبيل المثال بها تسع لغات، بعضها امتداد لثقافات تتجاوز حدود البلد، والقرن الإفريقي، ما يجعل من الصعب بعض الشيء الإمساك بهوية ثقافية واحدة لعموم البلاد. هذا الأمر موجود أيضا بشكل أو بآخر في دول القرن الإفريقي الأخرى. مع هذا كان يمكن لأي وحدة سياسية جادة بين دول المنطقة أن تخلق مناخا يتحرك فيه الأدب بشكل متقارب كأن يناقش قضاياه وهمومه وهذا قد يكوّن في النهاية هوية ثقافية بشكل أو بآخر.
‘ المجتمع الاريتري متعدد الالسن والأديان كيف تصف لنا ملامحه الادبية؟
‘ تعدد اللغات في اريتريا شكّل إثراء للأدب الاريتري بشكل عام، غير أن اقتصار اللغات المكتوبة على لغتين حصر الأدب الاريتري في مجمله داخل إطاره الشفاهي. فمنذ القدم يتوارث الناس الشعر والحكايات والأساطير المحفوظة في الصدور، دون أن تجد طريقها للتدوين. بينما وقفت ظروف أخرى قاهرة دون أن يتطور الأدب الاريتري داخل اللغتين المكتوبتين، كانت الحروب أبرز تلك الظروف.
‘ ما هو الوصف الدقيق لوجود اللغة العربية في إريتريا في ظل وجود ألسن خاصة؟
‘ موسى صالح مغن مشهور بلسان التقري وهي لهجة لعدد كبير من القبائل وهو رجل أمي الابجدية كان يشتري النسخة العربية لصحيفة اريتريا الحديثة وهو لا يستطيع قراءتها قائلا حتى لا يتحجج النظام بعدم وجود قراء لها ويغلقها، وذلك في تصديه للتهميش الممنهج الذي تتعرض له اللغة العربية من قبل القوى الحاكمة تلك هي العلاقة.
‘ المشهد الشعري في اريتريا سبق الرواية في تأكيد حضوره منذ عهد الثورة الاريترية على يد شعرا ء مثل محمد عثمان كجراي، وأحمد سعد، ومحمد مدني،وآخرون لماذا توقفت الرواية في إريتريا بعد رواية الاستاذ ناود وعاودت الظهور مجددا؟
‘ يبدو لي أن ذلك عائد لطبيعة الشعر كإبداع أدبي، وحالة شعورية. فهو متوائم مع حالة الإبداع الشفاهي التي سادت طويلا ونمت وسط بيئة خصبة، إذ كان للشعراء في اريتريا مكانة سبقت قيام الدولة وصيت عابر للقبيلة أو المنطقة. بينما الإبداع الروائي يتطلب ما هو أكثر ليبقى ويتطور، وهو ما كان شحيحا في الحالة الإريترية، فلا التجارب المحلية كانت كافية لتؤسس بيئة روائية، ولم تكن الظروف مواتية للاطلاع على تجارب الآخرين.
‘ السياسي والروائي الاريتري الراحل محمد سعيد ناود في روايته صالح التي صدرت قبل عقود تناول الحركة الطبيعية لانسان المنطقة بين السودان واريتريا وكتبت انت عن فكرة الانتماء والرحيل في روايتك ‘سمراويت’ التي نالت جائزة الشارقة للرواية العام 2012 هل الذات الاريترية تعيش هذا الهاجس الأمر الذي جعل الرواية في اريتريا تنحى هذا الاتجاه؟
‘ بظني أنها تعيشه مع اختلاف جوهري. فالعظيم ناود وجيله كان يتنازعهم الحنين إلى اريتريا التي لم تكن قد جاءت بعد. كان الاستقلال هو الحلم المنشود لجيل الآباء، بينما يعاني جيلنا من حالة أكثر تعقيدا، فقد جاء الاستقلال دون أن يتحول واقعاً ينعم به الإريتريون، ما جعل فكرة الانتماء قائمة، وحالة الحنين إلى اريتريا الحلم حية لا تخمد. وكان من الطبيعي ربما والحال هذه أن تنعكس هذه الحالة الشعورية الطاغية على الأعمال الإبداعية بوعي أو بدونه.
‘ هل جاءت ‘سمراويت’ مرافعة امام الثقافة والتاريخ والدين والبحث عن مأوى جديد للإنسان جراء قسوة الحاضر؟
‘ إلى حد ما، لكنها مع هذا لم تمثل حالة هروب كلي من هذا الحاضرالقاسي، أو هذا ما أردته لها على أقل تقدير. ثمة فضح لهذا السوء الذي يكتنف واقعنا الاريتري وتحريض على تغييره.
ثمة ضجيج تعمدته و أنا أمرّ على ما نعيشه. كنت حريصا على إسماع الآخرين ولفت انتباههم. وددت قبل ذلك إسماعنا نحن الذين أُصبنا بالاعتياد حتى على أكثر الأمور مأساوية.
برأيي أن اريتريا والاريتريين يستحقون ما هو أجمل. هذه العذابات يجب أن تنتهي. لا ينبغي أن نكتفي بالأمل بأن يتجنب أبناؤنا ما نعيشه. هذا تماما ما اكتفى آباؤنا بفعله. مع هذا كنت حريصا جدا ألا يجرفني موقفي هذا ليحوّل الرواية إلى منشور سياسي.
‘ في ‘مرســــى فاطمة’ كمــــا في ‘سمـــراويت’ الفكرة الأساسية للرواية تسير خلف علاقة عاطفية هل شخصية سلمى إمتداد لشخصية سمراويت؟
‘ سعيت قدر استطاعتي أن ُأخرج عملا مختلفا عن سمراويت، ولا أعرف إلى أي حد وفقت في ذلك. لكني مع ذلك أبقيت على الخيط الرفيع الذي يحيل لمعنى الأنثى في نصوصي. هذا الخيط الذي قبض عليه القارئ في سمراويت سيجد امتداده لدى سلمى، مع أجواء مختلفة بالطبع.
‘ هل رواية ‘مرسى فاطمة’ تتحدث عن غياب الدولة وأجهزتها في السودان واريتريا أم أنك تساويهم بالدولة الثالثة القابعة في الحدود عصابات الاتجار بالبشر وتصديرهم إلى الكيان الصهيوني عبر سيناء؟
‘ فعلت هذا وذاك. في لحظة ما تصل لقناعة أن مجرد التوقف عند هذا السؤال هو عبث طالما كانت النتيجة واحدة. ما معنى أن يجد الإريتري خلاصه من عذابه بعذاب أكبر؟ ما معنى أن يكون الضحية لآخرين مهما اختلف الزمان أو المكان؟ هناك تنافس محموم بين الحكومة الإريترية وعصابات الاتجار بالبشر في التنكيل بالشعب الاريتري. لا يمكن تخيل مدى التطابق في أساليب هذا التنكيل ولا مدى بشاعته. الناجون وحدهم يحملون عذاباتهم كوشم ملتصق بأرواحهم المنهكة.


مرسى فاطمة".. خيبة عاشق ورثاء وطن

 
 
 
مرسى فاطمة".. خيبة عاشق ورثاء وطن
هيثم حسين
يتتبع الكاتب والصحفي الإريتري حجّي جابر في روايته "مرسى فاطمة" مسارات بعض الإريتريين الحالمين والهاربين. يرتحل بطله بين عدة أمكنة، وفي كل مكان بالجوار الإريتري ظلم وقسوة واستغلال وهروب مستمر من عصابات الاتجار بالبشر، وعالم آخر موبوء بين "كذبة الوطن" وقسوة المنفى.
 
بطل "مرسى فاطمة" الصادرة مؤخرا عن "المركز الثقافي العربي ببيروت" شاب إريتري ينتقل من قريته الجبليّة الوادعة إلى ضجيج أسمرا، يعاني قليلا في سبيل أن ينزع رداء معلم الخلوة، ليغرق في سوق المدينة بائعا في متجر للأقمشة، حيث يعمل عند الحاج "برعان" الذي يخفف عليه صدمة التحوّل الكبير، ثمّ يأتي صديقه جبريل ويمنحه فرصة التأقلم مع أسمرا، مع أضوائها، وناسها، وحكاياتها التي لا تأتي متشابهة أبداً.
 
يحاول جبريل إخراجه من حالة الخيبة التي تملكته. يعتاد البقاء في مرسى فاطمة بانتظار حبيبته التي يشاع خبر اختفائها ويروج أنها رُحّلت إلى ساوا أو السودان. فيقرّر تتبّع مسارها المظنون، يبادر إلى التطوع بالخدمة، رغم إعفائه منها، يدرك أنه لن يصبح في نظر الناس بطلا، أو مناضلا كامل الوطنية، لأنهم سيعرفون لاحقا أنه ما فعل ذلك إلا للحاق بحبيبته، فلا شيء في أسمرا يبقى سرّا إلى الأبد.
 
يحذره صديقه من مغبّة ما يقدم عليه وخطورته، وينبّهه أنّه يحكم على نفسه بحياة أبديّة في إطار العسكرية، وأنه سيقضي عمره في ميادين التدريب متنقلا بين حمل السلاح وموادّ البناء. وحين يتقدم بطلبه للالتحاق بالعسكرية يثني عليه الضابط ويخبره بأنه ليس كأولئك الخونة الذين يتهربون من الخدمة الوطنية.
 
يرصد جابر آثار الاحتلال الإيطالي وتأثيراته العميقة في بنية المجتمع، ثم يلتقط محاولات تصحيح متأخرة للصورة القديمة
 

 
وطن ضائع
ضواحي أسمرا التي يثني عليها الروائي من خلال شخصيّاته لم تكن في الحقيقة إلا مرسى فاطمة. ويخبرنا على لسان شخصيته بطرس أن مرسى فاطمة اسم أطلقه "الجَبَرتة" على الشارع تيمنا باسم جزيرة مباركة قرب مصوّع سكنتها امرأة صالحة من نسل الصحابة، ليحل محلّ اسم الإمبراطورة "مِنِّنْ" زوجة "هيلاسلاسي"، والتي اختارته دون سواه ليحمل اسمها.
 
ويشير إلى أن الشارع يبدأ بكنيسة "إندا ماريام" وتنتهي تفرعاته عند جامع الخلفاء الراشدين، وقد بناه الإيطاليّون بأموال تاجر يمنيّ استوطن أسمرا. ويذكر أن مرسى فاطمة يمثل وطنا رحبا لكل سكانه.
 
يصادق في ساوا "كداني" الذي يبدو واسع الثقافة والاطلاع، يقرأ فصولا من "مزرعة الحيوان" لأورويل، يجري مقارنات بين ما يرِد فيها والواقع الذي يعيشه ويعاني منه. يشاركه ألمه، يتأثر له وهو يحكي له خيبته بفقده سلمى التي يصفها بأنها بالنسبة له مشروع بحجم الوطن، وأنه بين يديها يشعر بالأمان، ولجبينها الأسمر ينتمي، وأنها لغته وحدوده وخريطة وعيه واحتياجاته.
 
يصارحه كداني بأنه يعمل ضمن جماعة تنشد العدالة التي لا تعني توزيع الظلم بالتساوي. وأنهم يناضلون لتغيير البلاد نحو الأفضل. ويدين ما يقال إن البلاد تعيش حالة بين الحرب والسلم. لأنّه يرى أنها حالة لإدامة استغلال الناس. ويبوح له بمرارة أن "الوطن كذبة بيضاء، يروج لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة". هذه المقولة التي يمهّد بها الروائي لروايته.
 
بعد سلسلة محاولات للعثور على سلمى وفشله بذلك، يقرّر بطل حجي جابر الهرب، والتوجّه نحو السودان، باحثا عن حبيبته، فيقع في قبضة "الشفتا" الذين يتحكّمون بالناس. يصفهم بأنّهم بدو رحل قدموا إلى السودان بعد أن ضرب الجفاف مناطقهم، وتكالبتْ عليهم قوّات الأشراف فطردتهم من ديارهم. وأنّهم يعيشون بين السودان وإريتريا.
 
يكتشف أنهم يأسرون الناس ويعطونهم مهلة لدفع ما عليهم، قبل أن يرسلوهم إلى سيناء المصرية. حيث لديهم قسم يعمل في تجارة تهريب البشر إلى السودان، وهي تجارة رائجة كما ترى، لكن القسم الآخر يعمل في تهريب البضائع والأسلحة من السودان وإليه، وهؤلاء يحظون بحماية من جنرالات نافذين.
 
يظل مرسى فاطمة، مبتدأ الحكاية ومنتهاها، منه تبدأ كل المسارات، وإليه تنتهي

 
تجارة البشر
يبلغ العاشق الهارب مخيم "الشجراب" بعد درب شاق. كان الفضول يسكنه لرؤية ملاذه الأخير. هناك يتعرّف إلى أمير وأمّ أوّاب، ويتفاجأ بأن حلم كل لاجئ هو الحصول على بطاقة مفوضية اللاجئين، وهو ما يعني أنه تمّ الاعتراف به لاجئا وبالتالي تصرف له مؤونة شهرية لا تغطي إلا عدة أيام. لأن المفوضية ومنذ استقلال إريتريا أسقطتْ صفة اللجوء عن اللاجئين الإريتريين، وعقد اتفاق لم يطبّق بين الحكومة الإريترية والحكومة السودانية.
 
يخبره أمير أن المشكلة الكبرى تتمثل في الشباب الذين يقررون الإفلات من الواقع المؤلم بالوقوع في فخ سماسرة الهجرة إلى إسرائيل. وأنه لا يملك أن يلومهم لكنه يتمنى من كل قلبه أن يكونوا حذرين جدا وهم يدخلون بيت الثعابين ذاك. ويقر له بأن المخيم لم يعد آمنا لكنه أهون الشرين.
 
يجد العائد من الموت والضياع والباحث عن الفردوس المفقود أن الوطن هو الفردوس رغم كل الممارسات الشائنة التي تتم باسمه وبحق أبنائه، تكون دائرة العودة مغلفة بالأمكنة التي مر بها، يشعر أن سلمى أيضا، كانت دائرة وسط كل تلك الدوائر، غير أنها كانت تتبع مسارا مغايرا. ويرتاح لظنه أن فاطمة ستعاود المرور بمسارها الذي سلكته أول مرة.
 
يرصد صاحب "سمراويت" آثار الاحتلال الإيطالي وتأثيراته العميقة في بنية المجتمع، ثم يلتقط محاولات تصحيح متأخرة للصورة القديمة، كمحاولة الفتاة ماريا التي تسعى في المخيم إلى مساعدة العاشق الحائر، عبر تأمين ملاذ له في إيطاليا، لكنه يرفض العرض، ويفضل العودة إلى وطنه رغم ما يتهدده من مخاطر وما ينتظره من أهوال.
 
يفضل بطله العودة إلى مرسى فاطمة ليجد أن كل شيء يبدو دائريا، وأن رأسه أيضا كانت تسكنه دوائر كثيرة. ينشغل بتتبع تلك الدوائر دون أن يكون متعجلا، لأنه يعتقد أن الحياة داخل دائرة، مهما بدت كبيرة، لا اعتبار فيها للزمان، بعد أن استأثر المكان بكل شيء.
 
ويجد نفسه مرتاحا جدا رغم كل التعب. لأن الدائرة تمنحه الشعور بالاعتياد لفرط انتظام كل شيء فيها، وتكراره. ويظل رسى فاطمة مبتدأ الحكاية ومنتهاها منه تبدأ كل لمسارات، وإليه تنتهي
 

Friday, June 21, 2013

"مرسى فاطمة".. رواية توثق لضحايا عصابات الاتجار بالبشر

"مرسى فاطمة".. رواية توثق لضحايا عصابات الاتجار بالبشر

 
جدة – حسن حاميدوى
صدرت حديثاً عن دار المركز الثقافي العربي في بيروت، للكاتب والروائي الإيرتري حجي جابر، رواية "مرسى فاطمة" والتي ترصد في 256 صفحات من القطع المتوسط، مسارات حيوات مئات من الشباب ممن خاضوا تجارب قاسية، مليئة بتفاصيل عالم غريب، محتشد بالخطف والقتل وسرقة الأعضاء البشرية، بعد أن تلقفتهم عصابات الاتجار بالبشر، ابتداء بإريتريا والسودان و مرورا بسيناء مصر وانتهاء بإسرائيل.
وتتناول الرواية التي تدور أحداثها في فضاءات وأمكنة بلا جماليات، حالات التناقض الإنسانية لشبان بحثوا عن حرية اضطرتهم لأن يكونوا ضحايا لتلك العصابات، عبر مشاهد مستمدة من الواقع الذي عايشه أبطال القصة، حيث استطاعت الرواية أن تشيّد بناء خاصا، لواحدة من أبشع الجرائم الإنسانية، من خلال توثيق واستقصاء ولقاءات متكررة مع العديد من الضحايا ممن تمكنوا من الخروج أحياء يرزقون.
وتطرقت الرواية عبر مشاهد سردية إلى أحوال تلك العصابات وما تحكمها من قوانين، وغاصت بجرأة في دواخل نفوس أفرادها، لتحلل نظرتهم إلى الحياة والناس، ولتتعمق وراء أمراضهم النفسية ورغباتها المجنونة في اقتراف الفظاعات، فيما اعتمد الراوي في ذلك على الفنون الصحفية وتقنياتها، والوصف الدقيق للشخصيات والأجواء التي تقع فيها الأحداث، ليقدم بذلك حبكة درامية أسهمت في عكس الواقع بكل تفاصيله المؤلمة.
من جهته ، اعتبر الكاتب حجي جابر، أن "مرسى فاطمة" تعد الرواية العربية الأولى التي ترصد وتوثق ضحايا عصابات الاتجار بالبشر (بالقرن الافريقي) ، مضيفا في حديث خاص لـ"العربية.نت"، إن "مرسى فاطمة" عبارة عن أحداث واقعية انتهجت التحليل القصصي لأبطالها، واتكأت على العديد من الحقائق والروايات، التي تأخذ القارئ إلى تجارب قاسية لهذا العالم الموبوء بالبشاعة فوق قدرة الإنسان على الاحتمال بجرائم الاتجار بالبشر والتي أصبحت حدثا يوميا في حياة الإرتيريين بشرق السودان. وأضاف جابر قائلا "أتمنى أن تكون "مرسى فاطمة" إضافة جادة إلى المكتبة العربية، وأن تعمل على جسر الهوة بين الأدب الإريتري المكتوب بالعربية والقارئ العربي في كل مكان
http://www.alarabiya.net/ar/culture-and-art/2013/06/18/-%D9%85%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D8%A7%D8%B7%D9%85%D8%A9-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D8%AB%D9%82-%D9%84%D8%B6%D8%AD%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%B9%D8%B5%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1-.html.

روائي إريتري يصدر روايته الثانية بالعربية

روائي إريتري يصدر روايته الثانية بالعربية


عن المركز الثقافي العربي صدرت مؤخرا رواية “مرسى فاطمة” للروائي الإرتري حجي جابر.
هذا العمل هو الثاني له بعد روايته الأولى ” سمراويت ” الصادرة أيضا عن المركز الثقافي العربي والحاصلة على جائزة الشارقة للإبداع العربي عن العام 2012.
في حديث عن هذا الإصدار خصّ به الشرق يقول حجي عن مرسى فاطمة: “سعيت أن يكون هذا العمل مغايراً عن تجربتي الأولى. ثمة تحدٍ في أن تكون مختلفاً، خاصة بعد أن لاقت سمراويت بعض القبول. لا أعرف على وجه الدقة ما إذا كنت قد نجحت في ذلك، لكني بذلت جهدي لتحقيقه، دون أن أتخلص من الرهبة التي تلازم العمل الثاني عادة”.
وعن أجواء مرسى فاطمة قال حجي: ” النص يرتكز على المحلية، بدءا من اسم الرواية الذي يشير إلى شارع في العاصمة الإرترية أسمرا، تيمنا بجزيرة في البحر الأحمر سكنها صالحون من نسل الصحابة، مرورا بالقضايا التي يناقشها، وليس انتهاء بالأجواء العامة والفنون”.
وحول الفكرة الرئيسة للعمل الجديد يقول حجي ” ثمة أفكار رئيسية أردت إيصالها عبر مرسى فاطمة فإلى جوار القصة المحورية بين البطل وسلمى، ثمة قصص موازية لا تقل أهمية ، وإن كان حضورها كظلال للقصة الأولى، من ذلك مثلا الفظاعات التي ترتكبها عصابات الإتجار بالبشر، وحجم التشويه الذي يطال الإنسان حين تُسلب حريته أو يتخلى عنها طواعية، وتبادل الأدوار بين الضحية والجلاد التي تحفل بها لعبة الحياة
http://www.alsharq.net.sa/2013/06/18/871119”.

Monday, April 1, 2013

سمراويت..حكاية وطن



"سمراويت": حكاية وطن
محمد ولد محمد سالم
من الأسطر الأولى لرواية “سمراويت” للكاتب الأريتري حجي جابر، سيجد القارئ نفسه مندفعاً في القراءة، وكأنه يواصل متابعة حكاية قد عاش بداياتها من قبل وألف شخصياتها، فالسرد يندفع بسلاسة وبساطة مدهشة: “ما إن لمحتني سلام أقترب من شارع مودرنا حتى سارعت إلى تنظيف الطاولة التي اعتدتها، لم تستغرق وقتا في استحضار ملامحي، ولم يفاجئني ذلك، فالصيف الفائت جعلني مألوفا بما يكفي هنا” .

سمراويت هي الرواية الفائزة بالمركز الأول في الدورة الخامسة عشرة من جائزة الشارقة للإبداع، الإصدار الأول ،2012 في حقل الرواية، وهي حكاية استكشاف الوطن وتفتق ملامحه في مخيلة المهاجر الذي لم يره، وأمام عينيه حين يعود إليه فيشاهده رؤية العين .

تحكي سمراويت قصة شاب أريتري عاش طفولته في جدة في السعودية، وألف أحياءها، ولم يعرف شيئاً عن وطنه، وحين يشب ويدخل بيئة العمل صحافياً في جريدة سعودية، يتعرف إلى الجالية الأريترية، ومن خلالها يبدأ في التعرف إلى ملامح الوطن، لكن الصورة في الغالب تأتيه متناقضة لأنها تأتي من خلال ممثلي مختلف التيارات السياسية المتصارعة في وطنه، خاصة الحكومة والمعارضة، ومع ذلك فإن غبش الصورة لا يمنعه من تكوين صورة بهية عن وطنه، فيقرر السفر .

التقنية السردية في الرواية تقوم على المراوحة بين زمنين، زمن استكشاف الوطن وتخيله ذهنياً، والبطل لا يزال في جدة، وزمن الالتقاء بهذا الوطن واكتشافه عيانا، ويتقدم المساران متوازيين في لعبة سردية مشوّقة، تشكل علاقة الحب الذي تفجر فجأة على أرض الوطن بين “خالد” بطل الرواية و”سمراويت” الفتاة الأريترية القادمة من باريس محفزا مهما من محفزاتها، حيث تأخذ سمراويت في عيني خالد ملامح الوطن، وتتحول إلى رمز له يكبر باستمرار كلما أخذتهما جولاتهما اليومية إلى معلم من معالم العاصمة الأريترية “أسمرا”، حيث آثار العمارة البديعة التي تركها العثمانيون والإيطاليون، وحيث البسطاء المشبعون بجماليات الروح، وصدق القيم، وكأنهم خزنوا قيم الدين الأولى التي بثها الصحابة يوم أن وطئت أقدامهم تلك الأرض، بعيداً عن كل تعصب أو انحياز طائفي .

لكن تلك الصورة الجميلة التي يستشكفها خالد صحبة سمراويت، تبدو محاصرة بصورة فوقية أكبر هي صورة الخلافات السياسية، وانعدام وضوح الرؤية للدولة الناشئة، مما كبل الواقع بصراع لم يستطع أطرافه أن يحسموه لمصلحة الوطن، وهو ما يؤول رمزياً إلى استحالة الزواج بين البطل وسمراويت التي تمثل الوطن، فلا يجد من خيار سوى العودة إلى جدة .

سمراويت هي سيرة وطن بتاريخه وأبطاله وناسه وجمالياته وتناقضاته، ولو أن الكاتب حافظ على حرارة السرد التي بدأ بها الأجزاء الأولى من روايته، لكان كتب رواية غاية في الجمال، لكنه وقع في فخ الاستطراد بتتبعه تاريخ الثورة وملامح البيئة الجغرافية والعمرانية لأريتريا، مما أخرجه من سياق الحدث الروائي المشحون بالحركية، ومع ذلك فالرواية جميلة، فيها حرارة المعاناة والاستكشاف، وتتمتع بأسلوب سهل سلس .



سمراويت' للكاتب الإرتري حجي جابر: البحث عن الذات والوطن




سمراويت' للكاتب الإرتري حجي جابر: البحث عن الذات والوطن
د. عائشة البصري

'سمراويت'، رواية للكاتب والصحفي الإرتري حجي جابر، صدرت منذ بضعة أشهرعن المركز الثقافي العربي و نالت جائزة الشارقة للإبداع العربي للسنة الماضية. الرواية فيض من الذكريات يغيب عنها التدرج الزمني المنطقي للأحداث فتلتقي النهاية بالبداية وتبدأ القصة من الوسط، أي من قلب أسمرا النابض التي سينطلق منها بطل القصة، عمر، بحثا عن الذات والوطن. بأسلوب بسيط وعميق في ان واحد تتناول 'سمراويت' في ثنايا سردها مأساة شتات الذات المغتربة، وجدلية الإنتماء للوطن المضيف الطارد والوطن الأم الغائب.
لكن ما يميز الرواية قبل كل شيء هوحبكتها التي تتناوب فيها ذاكرتي السعودية وإرتريا على نحو يعكس ثنائية الزمان والمكان، مما يجعل القاريء يتنقل بإستمراربين ضفتي البحر الأحمروهو مشتاق لمعرفة كل تفاصيل الحكاية والنهاية. فيصبح زمن القراءة جزءً من تجربة الإزدواجية حتى الإنشطار ويعيش القارئ والراوي معاً أفراح وأقراح الوطنين المستعصيين وهما يتنقلان بين عالمين يتشابهان في قدمهما وصعوبة الوصول إليهما وإستعصاء الانتماء إليهما.
رحلة البحث عن الإكتمال

'في السعودية لم أعش سعوديا خالصا، ولا إرتريا خالصا. كنت شيئا بينهما'. شيئا يملك نصف انتماء، ونصف حنين، ونصف وطنية .. ونصف انتباه (...) أنصاف لم يكن بمقدورها أن تنمو لتكتمل، ولم يتح لها أن تجد ما يماثلها انتماء و حنينا ووطنية وانتباها'.
بعد ثلاثين عاماً يدرك عمرأنه 'يعيش بنصف قلب ونصف رئـة ونصف عقل'. إنها الذات الضائعة التي يعرفها كل من حُكم عليه أن يولد غريبا في وطن ما ويعيش غريبا عن وطن مكتوب على جبينه و على جواز سفره. هذه هي مأساة عمر، ذلك الشاب الذي وُلد وعاش في جدة، فتنفس هواءها، وتشبع بلهجتها، وشجع نواديها ليصطدم بأجنبيته فيها وهو لم يتجاوز السن السابعة حين أرهقه البحث دون جدوى عن مدرسة تحتضنه
.
يفشل الصبي في التمدرس لأنه 'أجنبي' ولأن النسبة المخصصة للأجانب محدودة فيضطر للإلتحاق بمدرسة ليلية لمحو الأمية. لكن الطفل لايستوعب أجنبيته، أو بالأحرى تجنِيبه، ويمضي مصّرا على أن يشبه رفاقه ولو إضطره الأمر الى الكذب كل يوم عند الظهيرة حين يلعب دور التلميذ العائد من المدرسة فيلقي بحقيبته الفارغة ويخرج للعب في الحي مثل أقرانه. ثم يذهب كل مساء متسللا إلى دروس محو الأمية، محملا بحقيبته الثقيلة، ومثقلا بأكاذيب ستستمر لسنتين قبل أن يتسنى له الإلتحاق بالمدرسة.
يكبر عمر و يكبر معه وعيه بأجنبيته حين يتعذر عليه الحصول على منحة لولوج الجامعة وحين يمارس مهنة الصحافة ويطّلع على اراء سعوديين يصبّون نقمتهم على الأجنبي 'الجربوع' المتهم بكل أفات المجتمع من البطالة الى التلوث. عمر يحمِل مأساة جيل عاش في مملكةٍ لا يملك فيها شبرا، وطنٍ مضيف وطارد يُبقي أبناءه في خانة الأجانب.
الوطن الذي لم تكتمل ملامحه بعد

يمر الزمان ويتمادى وطن الولادة في طرد عمر وتتحول إرتريا الى وطن حلم إلى أن يقررالشاب أن يحمل نصفيه، وضياعه، ووجهه المشبع بملامح الغربة إلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر حيث الوطن الأم في إنتظاره وأشياء أخرى:
'كثيرة هي الأشياء التي ينبغي البحث عنها في إرتريا، أولها البحث عني، فبمجرد أن يتوقف الشتات، ستبدأ ملامحي في التشكل والاكتمال. سأبدأ في التعرف إليّ، سأتلمس وجهي، أختبر صوتي للمرة الأولى، أصرخ حتى أصاب بالصمم، وحده هذا الفعل، سيزيل أعواما من الغربة بيني وبين صوتي، سيهدم جدران الهمس قائمة
.'
مع وصول عمر إلى العاصمة أسمرا تبدأ رحلة البحث عن الإكتمال لتتزامن مع قصة حب تنشأ من أول لقاء له مع سمراويت، فتاة مسيحية مقيمة في باريس من أب إرتري وأم لبنانية. لقاء شابين إرتريين تفرقهما دياناتهما ومحيطهما الإجتماعي و تجمعهما عروبتهما وحبهما لكل شبر من وطن عاشا بعيدان عنه ويرغبان في إكتشاف معالمه. ينمو حبهما بسرعة شديدة رغم حرية مقيدة بتصاريح الدخول و صعوبة التجول في بلد حبيس الماضي تبلغ فيه العزلة قمّتها حين يكتشف عمر أنه لا يستطيع الحصول على شريحة هاتف لأنه مجرد زائر وأنه لايُسمح للمقيمين أن يملكوا أكثر من شريحة واحدة .
يصطحب عمر وسمراويت في رحلة الصيف والوطن 'سعيد' ابن الجارة في جدة الذي رفض الهروب مع أهله الى السودان مفضلا المكوث والقتال من أجل الثورة التي أفقدته ذراعه اليمنى دون أن تفقده إيمانه بالوطن. ينطلق الثلاثة نحو مدينة مصوع التي ينحدر منها أهل عمر الذي يبحث بشغف عن بيتهم في حي ختمية:
'بلغنا ختمية. كان حيّا منهكا، بدت بيوته وقد أعياها الزمن وغياب أصحابها، تداعى معظم البناء وحلّت محله صفائح معدنية صدئة غمرتها الثقوب، تستر جوانب وتعجز عن ستر أخرى
'.
إختلاط الفرح والحزن في وجدان عمر وهو يقترب من ذاته بوقوفه على أطلال مسقط رأس والديه ُيفقده توازنه ويدخله في حالة نصف إنتباه تحرك فيه إحساسا قويا بالشجن. إحساس مربك لن يفارقه في رحلته إلى رأس مدر وقرقسم ودهلك قبل أن يعود إلى أسمرا ويستيقظ على خيبة إرتمائه في أحضان الوطن. يجلس عمركالمعتاد في مقهى 'مودرنا' ينتظرعودة سمراويت لتخبره عن قرار أهلها بشأن رغبته في الزواج منها والإكتمال فيها وبها. فتشاء النهاية أن يرفض والدي سمراويت هذا الإرتباط وتنهار أحلام عمر.
هكذا تنتهي رحلة إكتمال الأنصاف ولا يبقى إلاّ عمرالمسلم، الخجول، المحافظ،، الحالم، يُعزّي نفسه المتشظية وقد فشلت في محاولة الإلتحام بذلك النصف العربي، المسيحي، المتحرر، الصاخب، الجريء، المُترف، وصاحب القرار. لكن ما يجعل بُعد هذه الرواية أكثر عمقا من قصة حب يائسة هو كون سمراويت أكثر من إمرأة. إنها الوطن الأم الذي يقول فيه الراوي: 'إرتريا التي قاتلنا من أجلها لم تكتمل ملامحها'. سمراويت، العروس المستحيل، تجسد ذلك الوطن الذي لم تكتمل ملامح وجهه بعد. فلن يعرف القاريء شيئا عن وجه سمراويت الجميلة التي 'ضاعت بعض ملامحها خلف خصلات شعرها المنسدلة'، إذ يكتفي الراوي بالحديث عن سمرتها وابتسامتها ويتجنب الخوض في تفاصيل وجهها.
عروبة إرتريا: وطن فوق الأوطان

ليست سمراويت وحدها من تُحجَب ملامحها عن القاريء بل إن وجوه كل من أحمد ومحمود وسعيد والأم والجدة و النادلة وغيرها من شخصيات هذه الرواية تظل مغيًّبة أيضا رغم كونها تنبض بالحياة. هكذا يكون قلم حجي جابر قد نحا منحى ريشة الإنطباعيين السريعة التي بالكاد توضح ما ترسم فيبدو الإطارالعام واضحاً وتضيع التفاصيل كما تضيع ملامح إرتريا إلا عروبة هذا البلد.
في هذه الرواية التي تستحيل فيها الأوطان وتتلاشى فيها ملامح الأشياء وتحتدم فيها الصراعات الداخلية تبقى الهوية العربية جوهرا ثابتا وسط كل المتغيرات ووطنا فوق كل الأوطان. عروبة الرواية محورية وتفرض نفسها على كل المستويات بدءً بلغتها البليغة التي تنهل من الشعر والنثر والصحافة دون أن تغلّب جنسا على الآخر أو أن تبتعد عن التراث المجازي العربي المعروف بكثافته وخياله ووجدانه
.
يٌدخل حجي جابر القارىء في عروبة إرتريا مثلما يقود بطليه عمر وسمراويت إلى قصة حب عبر إعجابهما المتبادل برواية محمّد ناود 'رحلة الشتاء'، أول رواية إرترية مكتوبة باللغة العربية.
'عروبتنا في إرتريا هي مصيبتنا، ولكننا قابلون بها ولا نرضى عنها بديلا. نعتقد أن مسألة العروبة في إرتريا هي الأساس لأنه لولاها لما كانت حاجة للثورة أصلا'، يقول أحد شخصيات هذه الرواية وهو يستحضر ذاكرة وطنه دون أن يغرق في الماضوية.
بالفعل لا يحذو القاريء شك بأن عروبة 'سمراويت' هي الذات والنواة والجوهروالأساس. تتبخر الأوطان وتبقى العروبة وطنا للراوي والرواية. فالمكان لا يعني شيئا للكاتب الذي يحمل وطنه بين طيات الحرف والخيال والذاكرة .

*كاتبة وإعلامية من المغرب

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today%5C29qpt898.htm&arc=data%5C2013%5C03%5C03-29%5C29qpt898.htm


Friday, March 29, 2013

مع صدور الطبعة الرابعة..بالإمكان الآن تحميل رواية سمراويت !

مع صدور الطبعة الرابعة من سمراويت بالإمكان الآن تحميلها من هنا



جابر لـ الشرق: «سمراويت» هربت من جدة إليها

 

جابر لـ الشرق: «سمراويت» هربت من جدة إليها

نعيم الحكيم- الدمام

تبدأ كل الحكايات عنده من جدة، وإليها تعود. وما بين جدة وجدة، خرجت «سمراويت» روايته الفائزة مؤخراً بجائزة الشارقة للإبداع
 العربي، والصادرة عن المركز الثقافي العربي. هنا حوار مع حجي جابر الصحفي في قناة «الجزيرة»، حول نصه الروائي الذي يتحدث عن شاب إريتري يعيش في جدة قبل أن يقرر زيارة وطنه الأم لأول مرة، مع ما في ذلك من مشاعر ومواقف صعبة:
  • ما معنى كلمة «سمراويت»؟
سمراويت، هو اسم أنثوي شهير في إريتريا وإثيوبيا، وهو هنا اسم شخصية رئيسية من شخصيات الرواية يغرم بها بطل القصة حين يلتقيها في أسمرا، لكن الاسم حتماً لا ينتهي عند هذه الفتاة، بل يتعداها لينوء بحمل كل ما تطرق إليه العمل عن إريتريا، فسمراويت هي الوطن بحضوره وغيابه، بجماله وبتلك اللحظات بالغة القسوة. والذين قرأوا العمل لاحظوا حتماً أن سمراويت الأنثى تلاشت في النهاية دون ضجيج من أجل سمراويت الوطن.
  • تتحدث في الرواية عن جدة التي تقابلها أسمرا، هارباً من الأولى بحثاً عن الثانية. ما مدى حضور المكان في نصك؟
حضور طاغٍ بالتأكيد. لكن بطل الرواية لا يهرب من جدة، بل يهرب بها. يحمل معه عشقه وشوقه، وحتى غضبه من المدينة التي أحب أينما ذهب. يتنقل بها بحثاً عنها، عن صورتها الأولى. وهذا بالمناسبة أمر شبيه بما حدث مع أسمرا، التي كانت معه، داخله، لكنه قرر الهرب إليها. لهذا بالإمكان القول إن العمل مؤسس على المكان بكل ما ينتج عنه من مشاعر وخيال ورهبة وانتماء.
  • بالحديث عن الانتماء، هل تدخل رواية «سمراويت» في دائرة الأعمال التي تتحدث عن أزمة الهوية والانتماء؟
بقدر ما، نعم. هذا أحد خطوط العمل، وهو خط بارز بلا شك، لكنه يتقاطع مع خطوط أخرى أترك للقارئ اكتشافها، أو حتى إنتاجها، فالنص الأدبي أياً يكن نوعه كما تعرف، لا يتوقف عند كاتبه، بل تتم إعادة إنتاجه مع كل قراءة. لكن بالفعل أزمة الانتماء أحد المواضيع التي تؤرق الإريتريين في دول الشتات، ولا أتصور موضوعاً يتناول هموم هذا الشعب يستطيع الإفلات من هذه الأزمة.
  • تبرز جدة في عملك بشكل كبير. إلى أي مدى حضرت حياتك الحقيقية في «سمراويت» وأنت أحد سكان هذه المدينة بالفعل؟
ساعدني هذا كثيراً، ولولا هذه الرابطة الوجدانية بجدة لما استطعت الكتابة عنها بشعف وحب وكراهية حتى. أعشق جدة ولا أتصور نفسي بعيداً عنها لوقت طويل. هنا مقابر عائلتي، وهنا الصحب والرفاق والحكايات التي لا تنتهي. لكن هذا كله لا يعني أن العمل هو سيرة ذاتية محضة. هو خليط من كل شيء رأيته، أو عشته، أو سمعت عنه، إضافة لما تخيلته بالطبع.
  • وماذا عن الإنتاج الثقافي السعودي. لمن تقرأ، وبمن تأثرت؟
أقرأ لأستمتع، وكل عمل يحقق هذه المتعة سيدخل في دائرة التأثير عليّ بشكل أو بآخر. يحدث هذا بوعي، أو بدونه. أحاول دائماً توسيع دائرة هذه المتعة بتنويع قراءاتي، لكن في المقابل هناك أسماء تحفر في وعيي عميقاً، لما تحمله من اختلاف ودهشة، سواء على مستوى اللغة، أو بنية النص، ولعل الصديق محمود تراوري أحد هؤلاء، تعلمت منه وما أزال.
  • ماذا عن إنتاجك المقبل؟
لن يكون بعيداً عن إريتريا. هناك كثير مما يمكن التقاطه في هذا البلد المنسي. في وجوه الإريتريين تربض ملايين الحكايات، سأحاول أن أختار بعضها، لأعرضها بشكل مختلف عما فعلت في سمراويت. أتمنى أن أنجح في صناعة هذا الاختلاف

سمراويت.. كل المسافاتِ نصفُ اتجاه

  سمراويت.. كل المسافاتِ نصفُ اتجاه- أشرف فقيه
أورد بوركهارت [1]في مذكراته، أنه لما استعرت الحرب بين محمد علي [2] وسعود الكبير
[3]بدايات القرن التاسع عشر، سارع شيخ تجّار جدة في حينها، واسمه (العربي الجيلاني) لنقل حريمه ومتاعه إلى قصره الشتوي الذي بمصوع.
مصوع [4]هذه تقع في الضفة المقابلة للبحر الأحمر.. على الساحل الإريتري. وقد كانت هي وسواكن وعدن والمخا والقصيّر وينبع تشكل مع جدة رؤوس شبكة (بحر-أحمرية) ربطت تجارة الهند بمصر وجنوب آسيا بأفريقيا وأوروبا المتوسطية.. فخلقت ما يشبه الدولة الافتراضية التي تقاسمت الأعراق والثقافات ويّا الثروة قبل أن تفتتها ظروف الحداثة لاحقاً.
الخلاصة أن ضفتي البحر الأحمر عالمٌ واحد شطره الماء. وتلك الحقيقة المنسية هي ما يبني عليها حجي جابر [5] في روايته البديعة (سمراويت)، التي يمكن أن نصنفها أيضاً كسيرة ذاتية لمؤلفها ولجيله من الإريتريين.. فتبدو في أجزاء منها مثقلة بالتاريخ بدون أن يذهب ذلك بجمال السرد أو يقطع خيط الأحداث.
سمراويت رواية عن إريتريا كتبها إريتري مغترب.. وهي مع ذلك يجب أن تُقرأ في السعودية. لأنها تستمد من جدة نصف روحها ونصف قصتها. وحجي جابر، مثلما كتب قبله معتز قطينة [6] ومثلما سيكتب آخرون، يستحضر ملامح حياة موازية هي جزء من التركيبة التي تشكل السعودية اليوم وشكّلت جدة منذ الأزل.

ماذا يعني أن تكبر في وطنٍ ليس لك؟



ماذا يعني أن تكبر في وطنٍ ليس لك؟ كيف الأمر حين “تعود” إلى وطنك؟
أسماء قدح
في السعودية لم أعِش سعودياً خالصاً، ولا إريترياً خالصاً. كنت شيئاً بينهما. شيء يملك نصف انتماء، ونصف حنين، ونصف وطنية.. ونصف انتياه.
ستعرف الإجابة حين تقرأ سمراويت. حجي جابر بلُغته البهيّة يحكي قصة عمر الذي عاش عالمين متوازيين في وقت واحد. عمر الذي أحبّ جدة، أحب رطوبتها، شوارعها الخلفية، ميادينها الكثيرة، بحرها، أزقتها المزدوجة الأحلام. عمر الذي رأى صديقه يحب “الاتحاد” كأغلب الجداويين ثم ما لبِث أن كرهه و كرِه ما يشبهه. عمر الذي نما كزرعٍ هادئ في مكان ليس له، في مكان سكنه و عرف كل شوارعه وتقلّبات جوّه، لكن المكان لم يستسغه. ذلك المكان الذي لايتوانى يذكّره كم هو دخيل؛ بلغته، بلونه، بثقافته، بأحلامه، بطريقة تفكيره. ذلك المكان محطة، ميناء؛ إن أتيته من مكان آخر ستغادره ولو بعد حين. أنت لست منه و إن وُلدت فيه، أنت منه -فقط- حين تكون جذورك السابعة منه، سيربتُّ عليك حينها و يضمّك إليه، و يرفعك للأعلى.
عبء ثقيل أن تسافر وأنت محمّل بكلّ هذا القدر من ذكريات الآخرين المعتّقة، من همومهم وأمانيهم، من أحلامهم التي تحققت، وتلك التي طال انتظارها
عمر الذي تذكّره جدّته بأسمرا، مصوّع، مودرنا، بالمنبت الأصلي للعائلة و هي تحكي بتؤدة الكبار. أمّه التي يكتنز الوطن في ذاكرتها بـ”زوديتو”. القنصلية؛ باجتماعاتها، مناسباتها، حفلاتها، بنائها.. الحبل السُرّي الذي يربط المغترب ببلده، شيء ما يستحثّه على عدم نسيانِ منبته. ثم سمراويت.. المرأة / الفتاة التي ألقى بها وطنه في وجهه، يوشوش له أن هنا يجب أن تحب، و هنا تنكسر، لأنني أرضك، ملجؤك، مأواك، لأنك مني. كل شيء في الوطن يختلف طعمه، حتى الوجع..
هنا يا سمراويت، للأشياء طعمها الأول: الحزن، والفرح، الحب، وحتى الغضب. نعم هنا بإمكاني أن أغضب، أن أصرخ دون أن أستأذن أحداً، أن أعيش بدائياً أو متحضراً، غنياً أو فقيراً لا يهم، المهم أن أقوم بكل شيء دون أن أتسول الحق في ذلك، أو أمارسه كمستخدمٍ ثانٍ.
هكذا ببساطة تتلخّص أزمة الهوية، الانتماء، و مَن أنت؟. مضحك و موجع أن تظنّ نفسك وُلدّت و كبُرت في أرض تحتويك، و تكتشف -بطريقة ما- أنها تلفظك.. بعيداً جداً. بعيداً عن تاريخك عليها، عن تاريخ ذويك الذين قرروا استيطانها لغرضٍ أو ظرفٍ ما، ثم تكتشف أنها كانت تنتظر بفارغ الصبر لأن تعود من حيث أتيت، أو ببساطة؛ إلى أي مكانٍ آخر، المهم أن تُبعد عنها، غير مأسوف عليك. مفزع جداً أن تنقش في مخيّلتك اللقاء الأول مع المكان الذي منه أتيت، أن تتوتّر، أن تخاف ألا يكون كما رسمت. و تبدأ في سنٍّ متأخر جداً كيف أن الأمور ليست كما تظن، و أنّك ربما تكون كوطنك “شيئاً طارئاً”.
لا يليق بي أن أقضي العمر كله مسافراً إلى مدينة.. ثم لا أجدها في استقبالي.. أن تنتهي علاقتي بها قبل أن تبدأ، وأنا القادم محمّلاً بالأمنيات في تأسيس ذاكرة جديدة وأشواق مكتملة
وجوه الإريتريين دافئة، فهي خليط من معاناة ممتدة حفرت عميقاً، وإباء خلّفه بحث مضنٍ عن الوطن طيلة عقود
لا أعرف لماذا اختار الرجل الجربوع دون سواه كي يشبهني به، لكنه أدخلني في لعبة بها بعض التسلية وإن كانت مؤلمة.. لذا قررت إكمال اللعبة على غير العادة
.
“أنا يا دكتور مش سعودي.. أنا إريتري”
قطعت جملتي ثرثرته.. صمتَ لحظات.. شعرت أنه يلعن حظه العاثر الذي أوقعني في طريقه
الوطن ليس وجهة نظر. الوطن لا يعيش في المناطق الرمادية، إما أننا في وطن حر وديموقراطي، أو أننا نعيش في ظلام التخلف والديكتاتورية، وأظن أنك تعرف تماماً أين نحن، إلا إذا كان لك رأي آخر؟
كأنك تعيدين تأثيث ذاكرتي من جديد، تسقطين عنها كل ما علق بها عبر السنين دون أن يكون له طعم يوم واحد من أيامك.. بل لحظة واحدة معك
لم تكن جدة مجرد مدينة حتى تستسلم بهدوء لعوامل التعرية التي تطال أعمق ما في المدن، كانت بمثابة الحاضنة لتشكل وعينا ووجداننا وحتى ذاكرتنا..
كنت مواظباً على تقمَص دور الطالب العائد من مدرسته وقت الظهيرة، حتى إذا جاء المساء حملت حقيبتي الثقيلة وتسللت سالكاً شوارع لا يقصدها رفاقي باتجاه مدرستي الليلية
كان عادل “زينا” تماماً، قريباً حد التماهي، كان ضمن قلة تنتسب إلى زمن جميل، زمن ما قبل التسعينات، وقتها لم يكن قد حان اكتشاف فروقاتنا المليون كأجانب عن أهل البلد
يا سلام.. تذكرت هذه الكلمة الفريدة عند الإريتريين، وحدهم ربما مَن أفرغوها من مضمونها الاحتفالي، لتصبح مترعة بالأسى، لتقطر فقداً ولوعة وحرماناً.
كنت مشتاقاً لأجد وجهتي الأخيرة.. وأنا المعتاد على الوجود الطارئ في الأماكن الطارئة
ليس سهلاً أن تبدأ متأخراً جداً في اكتشاف لغتك الأم، في المرور على مفرداتها دون التعثر بالتأتأة
http://www.asmaworld.com/wp/?p=3210
.

"سمراويت" تدور أحداثها بين حواري جدة ومقاهي أسمرا

 
"سمراويت" تدور أحداثها بين حواري جدة ومقاهي أسمرا
جدة - حسن حاميدوي
حصلت رواية "سمراويت" للكاتب والصحافي الإريتري حجي جابر أبوبكر جائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال الرواية الأدبية، متفوقة بذالك على أكثر من 30 عملاً روائياً عربياً تنافست فيما بينها للفوز بالجائزة، حيث أعلنت الأمانة العامة لجائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها الخامسة عشرة لعام 2011- 2012، فوز رواية "سمراويت" الإريترية بالمركز الأول في مجال الرواية الأدبية مع التكفل بطباعتها ونشرها في المكتبات العامة.

بين جدة وأسمرا

وتدور أحداث الرواية التي تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، بين حواري مدينة جدة السعودية ومقاهي مدينة أسمرا عاصمة إريتريا، حيث يروي الكاتب قصة بطل الرواية (عمر) ذلك الشاب الإريتري الذي ولد ونشأ في جدة وهي المدينة التي اعتبرها بطل القصة مملكة قائمة بذاتها، حيث تستعرض الرواية عبره مجتمع مدينة جدة بأحيائها وحواريها وكياناتها الاجتماعية، وتحديداً حي (النزلة اليمانية) وهو المكان الذي اختفت فيه جميع الحواجز وانصهرت فيه كل الهويات في مشهد ينم عن نظرة إنسانية رحبة ومتسامحة، بحسب الكاتب.

وفي ذروة الأحداث والقصص المليئة بحكايات جدة انطلاقاً من حي النزلة اليمانية، يفاجأ (عمر) عندما يكبر بتبدل الوجه القديم لمدينته الجميلة، ومع الزمن يكبر الشعور بالاغتراب داخله، فيقرر في لحظة فاصلة أن يلتفت إلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر، حيث وطنه الأم الذي غادرته عائلته قبل 30 عاماً، فيسافر إلى أسمرا لتبدأ حكاية أخرى من حكايات الاغتراب، ويلتقي هناك صدفة في أحد مقاهي أسمرا بـ(سمراويت) الفتاة الإريترية القادمة من باريس، فيحاولان معاً اكتشاف الوطن الجديد، ومن ثم يكتشفان قلبين عاشقين للفن للأدب، ويكتشفان قصة عشقهما، لكن محاولاتهما البحث تبوء بالفشل.

الشتات الإريتري

وتمكنت الرواية من خلط العديد من الأوراق الشخصيات والأحداث وإخراج عمل متجانس، يتنقل بين جدة وأسمرا بسلاسة دون أن يؤثر على تسلسل الرواية، كما استخدمت فيها لغة سهلة أدخل فيها بعض المفردات العامية سواء من اللهجة الجداوية واللغة الإريترية، أما أكثر الجوانب المثيرة والمحيطة ببطل الرواية فهي عودته لوطنه كمواطن يبحث عن الوطن، وظاهرة الاكتشاف لأول مرة، وهي مشاعر يمكن الإحساس بها لدى الاريتريين الذين لازالوا في الشتات رغم استقلال وطنهم، فالرواية تظهر جدلية العلاقة بين الوطن الحقيقي والوطن الموجود، وهو ما عكسه تشتت (عمر) واغترابه داخل الوطنين وما فيه من تجسيد لواقع وقصة الشتات الاريتري لما يسمى بأزمة الاغتراب داخل الوطن.

الأدب الإفريقي

إلى ذلك، امتنع الكاتب والصحافي حجي جابر عن تصنيف الرواية على أنها سيرة ذاتية وتجربه شخصية، مبيناً أن أي عمل روائي هو خليط بين الواقع والخيال، وأضاف في حديث خاص لـ"العربية.نت": "الرواية ليست سيرة ذاتية على أي حال، لكنها تلامس كثيراً مما عشته أو عايشته في جدة وأسمرا"، وتابع "بطل الرواية يشبهني لكنه شخص آخر، استفدت في تشكيله من حيوات كثيرة شاهدتها أو سمعت عنها".

وفيما يتعلق بمدى اعتبار الرواية نوعاً من الأدب الإفريقي قال حجي "يسعدني تصنيف الرواية ضمن الأدب الإفريقي المكتوب بالعربية، وهذا أمر لا يحمل تناقضاً، فالعربية لغة رسمية في إريتريا، والوجود العربي قديم في اريتريا قدم الإسلام، فمصوع مدينتي الساحلية كانت بوابة هذا الدين الذي حُمل على أشرعة المراكب التي أقلّت الصحابة الهاربين بدينهم إلى الملك العادل، وأن تصدر "سمراويت" بالعربية، فيه تأكيد على الجانب العربي الأصيل من إريتريا".

تجدر الاشارة إلى أن جائزة الشارقة للإبداع العربي التي تصدر عن دائرة الثقافة والإعلام بإمارة الشارقة تهدف إلى مكافأة الأعمال التي تساهم في تشجيع الثقافة والتراث العربي، الى جانب تحفيز المبدعين ودعمهم مادياً ومعنوياً، والمساهمة في رفد حركة النشر العربي بإصدارات لاعمال إبداعية في حقول متعددة، عبر التكفل بطباعة جميع الأعمال الفائزة بمراكز الجائزة، وقيمة مادية تقدر بستة آلاف دولار للمراكز المتقدمة، مع الاحتفاظ الجائزة لنفسها بحقوق الطبعة الأولى من هذه الأعمال.

سمراويت.. حنين الضفتين


سمراويت.. حنين الضفتين - محمد ديريه
أحد الأعمال الافتتاحية الكبرى في شرق أفريقيا.. بوابة لبلد لا يعرف عنه الناس في الوطن العربي شيئا.. قصة حنين بين مدينتين.. ليستا باريس ولندن.. ولا كتبها تشارلز ديكنز.. لكنه أشبه بضياع الملامح بين جدة وأسمرا.. يكتبها صحفي في بحر الثلاثين شوقا.. اختار دون بني جنسه خيار خوض التجربة ورسم اللوحة بلسان عربي فصيح هذه المرة.
خيار أشبه بركوب البحر عودة -هذه المرة- من "النزلة اليمانية" أحد أقدم وأعتق مناطق جدة، متجها صوب روما الصغرى كما كان يسمي الإيطاليون أسمرا سنوات استعمارها.
ضياع ممتد
عمل فني يقع في مائتي صفحة كمصافحة أولى لقلق الثنائيات على امتداد الرواية التي عنونت باسم "سمراويت"، تيمنا باسم البطلة الجميلة التي خلدها حجي جابر على امتداد الحبكة الروائية منذ نزوله أرض المدينة التي يسميها القاص السعودي سليمان الطويهر "أخضرا"، إلى آخر لحظة وقوف على ضياع الهوية بين تهجير قديم وضياع ممتد للهوية. للعلم يقيم في أسمرا 450 ألف مواطن إريتري مقابل 350 ألفا يقيمون في منفى قريب أشبه بالوطن يدعى السودان الشقيق.
سمراويت الفائزة بجائزة الشارقة للرواية مطلع هذا العام 2012، عمل يستحق الإشادة لأكثر من سبب.. 
مستباح كمطعم قديم
فقد نزح مئات الألوف من إريتريا لسنين.. وليس ذلك بمستغرب على بلد أفريقي طارد لشعبه كما هي الحالة في معظم شرق أفريقيا وأفريقيا عموما.. لكن موقع هذا البلد جعله مستباحا كمطمع قديم ابتدأه الإيطاليون أقدم مستعمري عروس البحر الأحمر الصغيرة.. ثم تبعتهم إثيوبيا ذات المطامع التوسعية منذ فجر التاريخ. وحين استلم أسياس أفورقي مقاليد الحكم بعد الاستقلال، وفى بوعد الرؤساء الأفارقة القديم.. ألا يترك معارضا.. وألا يكون له شريك في الحكم ما دام على قيد الحياة.

بذكاء من يمشي على خط النار دون خوذة إلا حجابا من تميمة الكلمات، يمرر حجي جابر كل أسلحة ذاكرة الحرب والتشرد وجزر المنفى وقلق الهويات القاتلة بموسيقى الثورة والجبهة إلى الجيل الجديد من أبناء إريتريا، دون عناء يذكر.
هنا عمل سيتذكره الإريتريون الناطقون بالعربية لأجيال عديدة، فهو الوحيد الذي تكلم باسمهم جميعا ولملم خيوط الحكاية باقتدار
ثنائية المكان أجادها باقتدار هذا الشاب الزاعم أنه لم يقرأ كثيرا في الأدب العالمي, كذلك ثنائية الوطن البعيد القريب هنا في أسمرا، أو هناك حيث النزلة اليمانية التي نشأ وترعرع فيها, وحيث كان مواطنا كاملا إلا من ورقة الجنسية حين ينادي عليها وكيل المدرسة أو شرطي لا يعرف مكان وطنك الأصلي على الخريطة، ذات تفتيش مفاجئ عند مدخل الحارة.

نتربع أمام عمل افتتاحي لبلد لم ينل استقلاله إلا قبل عقدين من الزمن, بلد بقوميات تسع ولهجات كثيرة.. بلد يسكنه قلق الهوية متذبذبا بين العروبة التي أدارت له ظهرها في عز الظهيرة وهي الجار القريب، وبين أفريقيا التي تجره إليها علاقته الأزلية بهضبة الحبشة الكبرى.
أقلية مسيحية تحكم.. وأغلبية مسلمة مشردة في أرض الله.
قلق هوية صارخ.. ألخصه في مشهد سمراء جميلة تضع الصليب على صدرها وتقود إبل أهلها نحو ورود الماء صبحا.
إنها إريتريا حجي جابر الخضراء، حيث التقاء البحر باليابسة، وحيث الدين لا يعارض البيئة.. فالإبل التي اختص برعيها العرب دون خلق الله، لا تفرق بين مسلم وراعية يلمع صليب التثليث على صدرها، لذا استحق الجمل أن يكون شعار إريتريا الجديدة موسوما بأصالة على جواز سفر مواطنيها المسافرين دائما وأبدا.
رسالة خاصة يوجهها حجي لأبناء إريتريا المقيمين بين الرياض وجدة، فهذه الأرض التي احتضنتكم سنين لم ولن تكون وطنا بديلا في يوم من الأيام.. يختصر قلق جيل كامل في مشهد الشاب الذي يخرج مع رفاقه احتفالا بفوز فريقه في طرقات جدة، وحين يوقفهم ضابط الشرطة يختار الإريتري الأكثر انتماء منهم إلى ذلك النادي ويصفعه صفعة قوية، فقط لأنه ليس ابن البلد أو ليس سعوديا كما تقول الأوراق بين يديه.
رسائل أخرى منثورة هنا وهناك.. عتب شفيف على السودانيين لما يلاقيه الإريتريون في مخيمات النزوح، وتجارة قبائل الحدود بالإنسان النازح حد بيع أعضائه.
تخليد للقصيدة على ضفتي البحر الأحمر .. كل فصل من سمراويت يبدأ بمقطع موسيقي باذخ للمرحوم محمد الثبيتي رحمه الله، والفصل الذي يليه يستهل بموسيقى باذخة للعذب الزلال محمد مدني الشاعر الإريتري ذي الجرس اللغوي الخاص به..

هنا عمل سيتذكره الإريتريون الناطقون بالعربية لأجيال عديدة.. منها أنه الوحيد الذي تكلم باسمهم جميعا ولملم خيوط الحكاية باقتدار.. هذا عمل يصبو لجمع شتات الكثيرين.
شعب في كل بقاع الدنيا
يؤخذ على العمل أنه كتب بلغة تقريرية صحفية أفقدته جزءا من الشاعرية التي كان يجب أن يتكئ عليها الكاتب حنينا وصوت ناي.
ووجود بعض الحشو الزائد -المبرر- في ظروف كثيرة, وأتفهم شخصيا هذا الشيء ما دام العمل بمجمله رسائل من تحت الماء لشعب في كل بقاع الدنيا.
لكن يبقى للعمل خلود الأعمال الأولى لأوطان لم نزرها، ولم يكن ليكتب لنا شرف معرفتها إلا على يد حجي ومدني ورفاقهما.. رفاق النضال الطويل.
أتساءل بقلق كل من استمتع بهذا العمل الرشيق الدرامي الجميل: هل سيكمل حجي رحلة الرواية كوجه قادم من شرق أفريقيا بعد نجاح عمله الأول.
ليس الأفضل لكنه الأول
وبينما احتضن هذا العمل، تتناهى إلى مسمعي العبارة الخالدة للكاتب نوبواكي نوتوهارا صاحب الكتاب القيم "العرب بعيون يابانية" عن غسان كنفاني حين قال "لم يكن غسان هو الأفضل.. لكنه كان أول من خلد القضية الفلسطينية على ورق الذاكرة".
ولابد أن حجي جابر قد فعلها هذه المرة باقتدار أهلّه للفوز بجائزة الشارقة لهذا العام.

أسمرا و «سمراويت».. الوجهان لوطن بكل هذا الجمال!




أسمرا و «سمراويت».. الوجهان لوطن بكل هذا الجمال! 
 
هاشم كرار
   
أحببت أسمرا، لكن غريمي أحبها، وأحب «سمراويت» وبث للاثنتين كل لواعج روحه العاشقة، في رواية أنيقة، وسُكرة، حملت عنوان مابين الهلالين. (سمراويت). آه حين يتخاطف اللون الواحد، لونان. آه، حين يكون الأب إريتريا، فيه كل تفاصيل إريتريا الثورة والصوت الخفيت، وتكون الأم من بلد الأرز وفيروز وصخرة الروشة، وجبران، وسعيد عقل، وميريام الأورنؤوطية! كنتُ، من عاشقي أسمرا، غير ان غريمي في العشق، صيرني عاشقا، وأكثر. كنت لا أعرف ( سمراويت) خاطفة اللونين واللهاتين، غير أن غريمي في عشق تلك المدينة الهامسة، صيرني عارفا. ياااااه، ما أكرم المعرفة، تلك التي تتنزل عليك حرفا حرفا.. جملة جملة، تملأك كلك- أولك وآخرك- وتزيد فيك الفضول! صاحبي.. صاحب (سمراويت) التقيته- أول ماالتقيته- في أسمرا. كانت حبات المطر، تتساقط على وردة.. تحكي حكاية الدعاش لعطر وردة، وكان هو بعينيه اللامعتين، يمارس نعمة الدهشة- في يومه الثاني او الثامن- وهو يكتشف ان له وطتا بكل هذا الجمال! يااااه. ماكنت أعرف ان لي وطنا بكل هذا.... تلك جملة شاعر. قلت ذلك بيني وبين نفسي. ما استوقفني- أيضا- أنني لمحت بأذني، في صاحبي هذا- الذي يكلمني الآن- لهاتان تتنازعان أي كلمة فيه، منه، يتحرك بها لسانه: لهاتان، في كل واحدة منهما تاريخ.. وفي كل واحدة منهما حاضر.. وفي كل وآحدة منهما أثر.. وفي كل وآحدة منهما مآثر! لخبطني.. وكانت جملته قد لخبطتني. حسبتك خليجيا!

لو كنت قد دققت، في لهجتي، لكنت قد قلت سعوديا! لا.لم يمهلني لأدقق، وأحسب من جديد. كانت ابتسامته لا تزال تجمل المسافة من فمه إلى أذني، حين لامست مسامعي اللهاتان: السعودية وطني الافتراضي، لكن إريتريا وطني الذي أعود إليه الآن، لأسترجع ملامح طفولتي الاولى- لأول مرة- بعد كل هذا العمر.. بعد كل هذا الغياب!

في الاكتشاف دهشة.. لكن لئن تكتشف وطنك- لأول مرة- هو أن تكتشف العالم كله. هو أن تكتشف الوجود.هو ان تكتشف الدهشة ذاتها. هو ان تكتشف ذاتك من أول جديد. هو أن تكتشف الجمال، ونكتشف الحب، وتكتشف الحبيبة. لو لم يكن صاحبي- حجي جابر- قد اكتشف بعد كل هذا العمر، ان له وطنا بكل هذا الجمال، ما كان قد اكتشف (سمراويت).. وماكان قد اكتشف كل هذه اللغة الصافية.. كل هذه المفردات الأنيقة.. كل هذه الجمل الطاعمة.. كل هذا الايحاء العجيب.. كل هذي الإشارات.. كل هذا التماهي.. كل هذا الحضور.. كل هذا الغياب في (سمراويت).. وما.. وما كانت-في المقابل- سمراويت قد اكتشفت صاحبي.. واكتشفت ذاتها.. واكتشفت- تاني من تاني- وطنها.. واكتشفت لبنان! تتداخل الجينات، في الجينات. يتداخل اللون في اللون. تتداخل اللهاة في اللهاة. اللغة في اللغة.. لكن للجينةالأولى، واللون الاولاني، وكذا اللهاة، واللغة الأم، سحر أخاذ، وسطوة، مثل سطوة القدر! كان- في البدء- القدر، يريد أن يلعب لعبته، وكانت أسمرا، بكل سحرها، وجاذبيتها، ونداءاتها الدافئة، العجيبة، وكان المطر، وكانت أنفاس الوردة، وكان الحنين الغامض، وكان مقهى( مودرنا).. وكانت (سمراويت) والكابتشينو بالرغوة، وكان هو.. وكانت رواية ( رحلة الشتاء) هى المدخل الجميل، للإثنبن معا، وكانت.. كانت الرحلة بلهوات اربعة.. بل خمسة: هو بلهاته الإريترية والسعودية.. وهى بلهاتها الإريترية واللبنانية والفرنسية! لا. لم تكن صدفة. الصدفة وحدها لا تنجب روائيا.. والصدفة وحدها لايمكن ان تحيي التاريخ دفعة واحدة، وتحيي الحاضر، وتحيي المستقبل.. وتقلب كل أولئك رأسا على عقب.لا، ولا يمكن للصدفة -وحدها – أن تكتب قصة حب بين اثنين، أحدهما يكتشف وطنه لأول مرة، والآخر يكتشف في هذا الآخر، طعم الوطن، وطعم الحياة، وطعم الوجود!

لا. كان كل شيء، مرتبا منذ الأزل. وكان أنيقا جدا.. وكان بهيا.. وكان صاخبا، وكان هادئا، وكان في جمال أسمرا.

(سمراويت) ليست مجرد رواية. إنها اكتشاف. اكتشاف باهر لوطن.. واكتشاف باهر للحب. واكتتشاف باهر لمعتى الحياة.. وهى- وهذا مهم أيضا- اكتشاف لروائي إريتري، وطنه الافتراضي السعودية.. روائي اسمه حجي جابر!


«سمراويت» رواية أريتريا المجهولة

 
 
سمراويت..رواية أريتريا المجهولة
محمد الأحمري
الجمعة ٢٢ مارس ٢٠١٣
تقص رواية «سمراويت» للكاتب حجي جابر(المركز الثقافي العربي) خبر رحلة «عمر» الشاب الإريتري الذي ولد في جدة من أبوين إريتريين ثم عاد إلى بلده الأصلي إريتريا الذي حدثه والداه عنها كثيراً. فالبلد حاضر في البيت دائماً في كل شيء ولكنه غائب دائماً، فهو لم يره أبداً. وفي وسط الثلاثينات من عمره يغامر ويزور لأول مرة بلده الذي يسمع عنه. روايته تراوح فصلاً بعد فصل بين مدينة جدة مغتربه أو «الوطن» الذي ولد فيه وعاش ولعب وتعلم ومزح وحزن وصادق حيث تكوّنت حياته الاجتماعية والثقافية، ولكنه أيضاً غريب فيه وعنه قانونياً، فيقرر أن يزور بلاده الغريبة ويلتقي بطلنا «عمر» في أسمرا بـ «سمراويت» الغريبة مثله عنه وعن بلدها، ثم يسير بك النص رخاء في غير عجلة ولا بطء كسفينة المهاجرين الأول قديماً إلى بلاد الحبشة «إريتريا» كما يلمّح - بل يوضح لك- الراوي

«سمراويت» تقطر شعراً وشفافية، وحواديث وصوراً جمّلها بافتتاحيات من الشعر لكل فصل، انتخبه بذوق رفيع، فأنت تقرأ في مفتتح كل فقرة قولاً لأحد شاعرين بادل بين أبياتهما طوال الرواية، فلعله أشفق عليك ألا تكون قد انسجمت معه كثيرا، أو خاف أن قوله يحتاج لشفاعة شاعر، أو لصورة مجلوبة من قصيدة، أو ليقول لك خذ على الطريق صورة فنية خالدة ربما كان مأسوراً بها ذات يوم.
حجي «أو عمر» ترك أريتريا جنيناً في بطن أمه وهاجر به والداه إلى جدة، فتكوّن عربياً ذلق اللسان سلس القلم ينظر بعين تراثه ويرسم عالمه الذي صنعه. ولكم اشتقنا لأريتريا عربية فأعادها جارة قريبة غضة خفيفة مازحة وعاشقة وشاكية باكية من الغبن والضياع على دروب الغزاة وقسوة المحررين من أبنائها الذين أرادوا تحريرها فقيدوها وأخافوها، وزادوها فوق الضعف فقراً وعزلة.
في الرواية نقاش جميل عن حال إريتريا وتحولاتها، فهي حاضرة ليس في لقاءات الإريتريين في جدة بل في مجتمعها الثقافي وفي منتدياتها جولات نقاش عن إريتريا في منتديات المثقفين في جدة في النادي الأدبي، وفي ثلوثية سعود مختار، وثلوثية المكية مع عنقاوي، وأحدية محمد سعيد طيب، وإثنينية عبدالمقصود خوجة، كيف وإريتريا أقرب المنازل للحجاز بل كانت أقرب من كثير من أرجاء الجزيرة العربية، وقربها كان من أسباب الهجرة الأولى للصحابة إليها. ثم ينقل الراوي عن الأديب الحجازي محمد صادق دياب أنه عشق أسمرا قديماً وأكثر من زيارتها، ويوم كان في الفندق «فوجئ بالشرطة تطرق الباب، وظن أن في الأمر خطأ، لكنه سرعان ما عرف سبب وجود الشرطة، فقد أخبروه أن جواربه المعلقة على جانب الشرفة المطلة على الشارع تشوه المنظر العام. وضجت القاعة بالضحك والتصفيق» (ص 50).

لقاء وسجال

الرواية لقاء وسجال بين عمر وسمراويت، بين المُغتَرب العربي (جدة) والمُغتَرب الأوروبي (فرنسا)، شعب يهيم في المغتربات، بين البلد والمهجر، وبين جدة وأسمرا ونادراً ما ذهبت الرواية الى مدن أخرى. ينقل عن جدة المدينة التي ولد فيها وعاش، فكانت هي الوطن الوحيد الذي رآه، وقد أصبح من محبيها «لأنها غير» لولا أنها عدّته من الغرباء. ويروي لنا عن صديقه الأريتري أيضاً الذي كان يتعصب للنادي الأهلي «قبل أن يتردى أسوة بأشياء كثيرة» وقبل أن تميزه السلطة بغربته وقبل أن يوقفهم الشرطي. ثم يختصه بصفعة لأنه ليس أصلاً من هنا، عندها أحس الصديق بغربته فيها: «أصبح يشجع كل المنتخبات، كل المنتخبات بلا استثناء حين تلعب ضد المنتخب السعودي» (ص 142).

لدى كل الغرباء ثقافة خاصة يحملونها عبر البلدان والثقافات، وتجد صورة منها عند حجي وهو ينقل عن جدته تحذيرها من تقبل عادات مجتمع جدة حتى لا يعتادوها «فسنبدو كالغرباء حين نعود» (ص 148 ). ولهذا فعلى الشاطئ القريب المجاور هوية وثقافة أخريان تحذر الجدة من نسيانهما ومن فقدان هويتهما.

للسياسة نصيب في الرواية لم يكثر، بل كاد أن يقل، لمن يقرأ أول رواية عن إريتريا «العربية». الرواية فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي، وهي تستحق الجائزة وأكثر. في الرواية بجوار الفن تاريخ لمهجر الصحابة في مصوع ولآثار مسجد تتجه قبلته للقدس. وفي الرواية هوية مستبطنة وقليلة الظهور، ثم يبرزها مكثفة وملخصة في صفحة واحدة يقص فيها عليك القصة في بلده التي لم يساعدها العرب، بل تخلّوا عنها دائماً.

والكاتب يذكرك «بعمق العروبة ودورها» ثم يقول أو ينقل عن المناضل الأريتري الشهير عثمان صالح سبي: «عروبتنا في إريتريا هي مصيبتنا، ولكننا قابلون بها، ولا نرضى عنها بديلاً. نعتقد أن مسألة العروبة في إريتريا هي الأساس، لأن لولاها لما كانت هناك حاجة للثورة أصلاً. إن إرتيريا المستقلة في ذلك الموقع الإستراتيجي المهم هي مع العرب اليوم وغداً وإلى الأبد، سيكون لها دورها في الشد على عنق العدو الصهيوني والمساهمة في خنقه. إن الثقافة العربية والإسلامية في إريتريا والقرن الأفريقي هي ثقافة مؤسسة منذ أكثر من ألف عام في هذه المنطقة وليست جديدة بل عميقة الجذور. إن الدول الكبرى لا تريدنا لأن الصراع يدور حول مسألة العروبة وبخاصة عروبة البحر الأحمر. في إحدى زياراتنا لروما قالوا: لماذا تصرون على التعامل مع العرب؟ لماذا لا تتفاهمون مع إسرائيل؟ قلنا لهم نفضل التعامل مع العرب لأننا عرب فلا حاجز بيننا وبين الأثيوبيين سوى الثقافة... إننا ننتمي إلى حضارة مختلفة وقد حارب الأحباش التعريب ألف سنة» (ص 172).

ضاقت إريتريا بالتضييق وكبت الأنفاس، حتى صديقه الذي توسط به في أسمرا ليجلب له سراً شريحة هاتف، يأتي بها ويصف الموقف: «دسّ سعيد شريحة هاتف في يدي. هذه باسم خالتي خصصتها لأصدقائي الزائرين. لا تخبر أحداً بذلك، كي لا تكون آخر من يستخدمها.» (ص 61 ). وفي تعقيب للفتاة «سمراويت» الإريترية المغتربة التي يقابلها في أسمرا لتكون صاحبة بطل الرواية تتحدث عن حال وطنها أريتريا وحجتها في المعارضة للنظام تقول: «الوطن ليس وجهة نظر، الوطن لا يعيش في المناطق الرمادية، إما أننا في وطن حر وديموقراطي أو أننا نعيش في ظلام التخلف والديكتاتورية، وأظن أنك تعرف تماماً أين نحن، إلا إذا كان لك رأي آخر؟» (ص 61 ). وخذ هذا المقطع عن حب الراوي للعربية وهو يصف قول أحد أدبائها الإريتريين: «تخرج الكلمات من فمه وقد تعطرت بعربية فصيحة، وأدب باذخ»

الراوي المغترب عن بلده ينتهي حبه الطارئ للمغتربة العابرة أيضا ببلدها بقوله : «يا للأسى حتى الوطن بات مثلنا تماماً شيئاً طارئاً» (ص189 ). هذه الرواية لا تغرق في حزن دائم ولا في مرح دائم، وتلبس كل الأحوال، أخيراً يبدو أن الرحلة والمحبة والغربة والثورة تنتهي نهايات متشابهة!

مزج الراوي بين أسمرا وسمراويت بين الذات والبلد، وما حققه من تجانس وذكاء في رحلته، من ذهاب وإياب بين فصل وآخر تقنية لطيفة في ذكرياته عن بلده وغربته وزيارته، أو بلد حياته وميلاده وبلد قيل له إنه منه. ولعل قوتها في قرب الحقيقة من الخيال، أما إن لم يقصد هذا فما الناقد إلا مؤول على أطراف نص، يقدم فهمه أكثر مما يقدم نص غيره، وليبقى العمل مفتوحاً للتفسير.