Tuesday, November 5, 2013

"مرسى فاطمة".. انتظار ما لا يجيء

 
 
مرسى فاطمة".. انتظار ما لا يجيء
عبدالله ثابت
 
• "تتماهى سلمى مع هيلين ملس، مطربتها المفضلة، فتشرع النافذة على حدائق من السحر، حين تغني سلمى لا يعود يشغلني شيءٌ غير ألقٍ يشع من عينيها ليملأ روحي بالبهجة، حين تغني يتسرب غناؤها إلى الماء والأشجار وحجارة الطريق".. هكذا كانت تغني سلمى في رواية (مرسى فاطمة) للروائي الإرتيري حجي جابر، الصادرة عن المركز الثقافي العربي في بيروت. ينقل حجي في روايته، المزدحمة بخليط الحيوات الغريبة والمتناقضة والمخيفة والجميلة والتعسة معاً في جزءٍ مرهقٍ من أفريقيا، حكاية شاب إرتيري يغادر قريته الجبلية الصغيرة منتقلاً إلى "أسمرا"، والتي كان يهرب من صدمة ضجيجها إلى "مرسى فاطمة"، منتظراً حبيبته التي لا تأتي.
• لا يكف صاحب سمراويت، روايته الأولى، أبداً عن البحث عن الوطن الضائع والحبيبة المفقودة، ففي "مرسى فاطمة" يرصد حجي التعب الذي يلاحق الإنسان الإرتيري في بيئة ما زالت تعاني من آثار الاحتلال الإيطالي بالأمس، وتعاني من العائدين بالتطرف الديني من إحدى الجامعات الإسلامية، مروراً بالهرب واللجوء والاتجار بالبشر، ومشاهد على امتداد الرواية تجسد صعوبة الحياة وقسوتها. كتب حجي "إذا كنا لاجئين فهذا لا يجعل أرواحنا رخيصة. نهرب من بلادنا فيذيقنا الشفتا صنوف العذاب. نصل المخيم فنجد العصابات في انتظارنا، هل يعقل أن تصل بهم الجرأة لاختطاف النساء من وسط المخيم الذي لا يستطيع أحد منا مغادرته لشدة الحراسة على جوانبه الأربعة؟!"
• حجي جابر، روائي إرتيري، ولد بمدينة "مصوع" الساحلية في عام 1976، عاش جزءاً من حياته في السعودية، بمدينة جدة، عمل في الصحافة السعودية، ثم انتقل إلى دولة قطر، ليعمل في غرفة الأخبار بقناة الجزيرة. أصدر روايته "مرسى فاطمة" مطلع هذا العام، أما روايته الأولى "سمراويت" فهي الحائزة على جائزة الشارقة للإبداع العربي لعام 2012
• في الصفحات الأخيرة من "مرسى فاطمة" كتب حجي، بجمال ودقة بالغين؛ "كانت سلمى لا تزال تبتسم. فكرتُ في تمزيق الصورة، في بعثرتها إلى أجزاء متناهية الصغر، بحيث لا يعود ممكناً إعادتها لهيئتها الأولى، تلك الهيئة التي لا تتورع عن نبش الألم داخلي كلما ركن إلى خدر ما. فكرت على الأقل في إخفاء ابتسامتها التي لا تناسب حالي، في طمسها ولو مؤقتاً حتى أتمكن من فهمها في هذا الجو الملبّد بالقتامة".
 

حجي جابر: الكتابة عمل شاق، تزداد مشقته كلما وعينا به أكثر


 
 
 
حجي جابر: الكتابة عمل شاق، تزداد مشقته كلما وعينا به أكثر
 
آراء - إيمان الودعاني

 حجي جابر، صحفي وروائي إرتري من مواليد مدينة مصوع الساحلية 1976، حاصل على بكالوريوس علوم اتصال، وعمل في الصحافة السعودية لسنوات، بالإضافة إلى عمله كمراسلٍ للتلفزيون الألماني "دوبتشه فيلله" في السعودية. حصلت روايته "سمراويت" على جائزة الشارقة للإبداع العربي 2012، وصدر له مؤخرا في 2013 رواية "مرسى فاطمة" عن المركز الثقافي العربي. أعمال الكاتب تتحدث عن نفسها، ولكن الكاتب وحده يستطيع أن يخبرنا أن رحلته المذهلة في الكتابة. عن بهاء التجربة وآلامها وانعطافاتها المفاجئة، عن طقوسه وعاداته وما يضطر إلى فعله لكي ينتج نصّه على النحو المطلوب، بالإضافة إلى تلك البصيرة العميقة التي تتفجر في لحظة المفاضلة بين كلمة وأخرى، لأن الكتابة هي في النهاية عملية بناء تحدث على مهل. وهكذا كان هذا اللقاء:

ماهي العوامل التي تحدد رضاك عن النص من عدمه؟ وإلى أين ينتهي النص في الحالتين؟

 لا أستطيع تحديد ماهية الشيء الذي يقف خلف احساسي الداخلي بالعمل. ثمة معيار صارم يطلّ على النص أثناء التفكير فيه والبدء في كتابته، ثم يقترب أكثر أثناء مراجعته، لأجده يستولي على كل شيء قبيل الدفع بالعمل إلى الناشر. هذا الأمر يحدث مع الخطوط العريضة ثم ينفذ ليصل إلى كل جملة ويستقر أخيراً عند الكلمات، لأغرق في حيرة الاختيار بين كلمتين تؤديان ذات المعنى غير أني لا أعرف أيهما أقرب إليّ، أو بالأحرى أيهما خرجت مني بالفعل. ورغم أني محاط بعدد من الأصدقاء الرائعين الذين يعيدون قراءة نصي ويمطرونني بالملاحظات كمحاولة أخيرة لتحقيق حالة الرضا، فإن ذلك يبقى معقودا بأن الرضا الكامل عن أي نص، عصيّ على البلوغ. ثمة رغبة لا تنتهي بالصعود بالنص إلى الأعلى في كل مرة.بين "سمراويت" و "مرسى فاطمة" ما الذي تغير في اسلوب حجي جابر؟ و ما هي العوامل التي أدت إلى ذلك؟ برأيي أن ثمة مسافة معتبرة من النضج بين العملين. سمراويت عمل أول، كتبته بروحي لكن بأيد مرتجفة بعض الشيء. أحبه كثيرون، لكني في المقابل جنيت من ورائه دروساً هائلة في الكتابة، استثمرتها في مرسى فاطمة. وما حدث مع سمراويت سيحدث مع مرسى فاطمة، سأصغي لكل ردود الأفعال، لكل الانطباعات، لكل الانتقادات، وأتعلم. لذا حين أتحدث عن النضج، فأنا أقصد به تلك المرحلة الطبيعية من التطور التي ترافق الانتقال في الزمن بكل ما يصاحبه من خبرات.

هل هناك اختلاف بالجهد المبذول في كتابة الروايتين؟ كيف؟

النضج الذي تحدّثتُ عنه لا يجعل الأمور أسهل. برأيي أنه يزيدها صعوبة. الكتابة عمل شاق، وتزداد مشقته كلما وعينا به أكثر. هناك بحث دائم عن الخلق والفرادة، مع ما يصاحب ذلك من قلق وعناء. كما أن الجهد الأكبر عادة ما يسبق الكتابة ذاتها، حين يغرق الكاتب في البحث عن فكرة، ثم في محاولة إيجاد الثوب المناسب الذي ستخرج به. يبدو الأمر كمن يتسلق جبلا وعراً، ليرى أكبر مساحة ممكنة تحته. فهو لا يكتفي من الصعود مع كل العنت الذي يلاقيه، لأنه مسكون أكثر بالمساحات التي سيمتلكها.

هل لديك طقوس معينة للكتابة؟ ماهي؟

 لا أعرف. مع تقدمي في هذا العالم أنا أكتشف ذاتي، ما ترغبه وما تأباه. عرفت مثلا أنني لا أستطيع الكتابة على وقع الموسيقى مهما بدت خافتة. أشعر بأن الموسيقى أكثر أنانية، فهي لا تلتزم الحواف ولا الهوامش. حين تحضر تستأثر بالمكان ولا تسمح لغيرها بالمشاركة. لكن هذا لا يعني أني أرتاح للكتابة في الأماكن منزوعة الأصوات، فقد كتبت سمراويت وأجزاء كبيرة من مرسى فاطمة في أجواء صاخبة بعض الشيء، حيث تتداخل أصوات كثيرين لتصنع موسيقاها الخاصة!

ما الذي يدفعك للكتابة؟

أنا كاتب مغرض، وغرضي هو إرتريا. أعرف أني هنا أصطدم بالذين يفضلون الأدب خاليا من شوائب السياسة. لكني لا أستطيع أن أترك هذا الكم الهائل من الآلام خلفي. كل ما أستطيع فعله هو أن أكون أكثر حرصا على ألا يطغى غرضي على جماليات الكتابة، على ألا أحوّل أعمالي لمناشير سياسية. غير ذلك ستظل إرتريا أمامي وخلفي كلما اقترفت فعل الكتابة. يلي ذلك حالة المتعة التي اكتشفتها وأنا أؤدي غرضي. الكتابة تصنع عالما موازيا نكون نحن أصحابه. أولسنا نتمنى دائما أن تطاوعنا الأشياء؟ أن تسير على هوانا؟ أن ترسو الأمنيات في شواطئنا؟ في الكتابة يحدث كل ذلك لنصبح نحن أسياد اللعبة.

يلاحظ القارئ حضور إرتريا وطن حجي جابر في الروايتين. ما الفرق بين أن يكتب الكاتب من خلال هويته و ظروفه الخاصة و بين الكتابة من هوية مختلفة تماما؟

برأيي أن الجميع ينطلق من هوية ما في الكتابة، أيا كانت تلك الهوية. قد تكون الوطن في حالتي، وقد تكون أمراً آخر في حالات الآخرين. نحن نكتب لنعالج عطبا أصاب أرواحنا بشكل أو بآخر. روحي معطوبة من جهة إرتريا، وحتى تبرأ تماما سأظل ألتفت لوجعي. أما إذا كنت تقصدين الفرق بين الكتابة عن مكاني وأمكنة الآخرين، فأنا لا أجيد الكتابة عن بعد، وأنا هنا أقصد بالبعد مدى إحساسي بالمكان. هناك من يتساوى لديه الاحساس بمكانه وأمكنة الآخرين، لذا يتقن الكتابة عنهما بذات المستوى، وأنا أغبطه على ذلك بالطبع.

من أين يستسقي حجي جابر افكاره للكتابة؟

 من كل شيء حولي. مؤخرا أصبحت مهجوسا بالناس، ملامحهم، طريقة حديثهم، كيف يغضبون أو يفرحون. كذلك ازداد اهتمامي بمتابعة الحيوانات، بالقراءة عنها والبحث عن خطوط التقائها بالبشر. أظن أني مع الوقت أنحو باتجاه التأمل أكثر، ودائما ما يعترضني سؤال كبير إن كان ما أراه أو أسمعه أو أشمه يصلح ليكون شيئا مكتوبا. لكني لا أنسى دائرتي الضيقة من الأصدقاء. حظيت برفقة رائعة تتقن الفرح والحزن وقبل ذلك كله سرد الحكايات.

ما مدى تأثير القارئ على الكاتب؟ وكيف يختلف هذا التأثير خلال مسيرة الكاتب؟

حضور القارئ معي طاغ. أدرك تماما أن هناك كتابة واحدة وقراءات شتى، لذا أمضي الكثير من الوقت في رصد وتتبع تلك القراءات، ليس بغرض الانصياع لاتجاهاتها مستقبلا، او الكتابة تحت تأثير سطوتها، وإنما لمواصلة ما بدأته، فكل قارئ يضيف وينير ويعمّق شيئا في كتابي. وبهذا يحقق فعل الكتابة أسمى مقاصده في محاولة الفهم. فهم أنفسنا والآخرين. بالطبع كان ذلك سيكون صعبا دون الوضع في الاعتبار الحالات المصاحبة للقراءة، سواء كانت توقعا مسبقا، أو منطلقا نفسيا أو أيدولوجيا وغيرها مما يتدخل في تقييم الواحد منا لأي عمل يقرأه. ما أود قوله إنني حريص على رأي القارئ وهو يرافقني بعد كتابة العمل وليس قبل ذلك. ولا أظن أن ذلك سيختلف مع تقدم الكاتب في مسيرته.

ماذا تقول لكاتب انتهى للتو من نصه الأول؟

أقول إنه لم ينته من نصه وإنما ابتدأه للتو، فمجرد أن يخرج الكتاب للعالم تبدأ عملية كتابته الحقيقية.
 
 - See more at: http://www.araa.com/article/75938#sthash.JjskJPev.dpuf
 
 

"مرسى فاطمة".. أيها الإريتري متى ينتهي عذابك؟!


 
 
 
مرسى فاطمة".. أيها الإريتري متى ينتهي عذابك؟
*عبدالله السفر
 
ما أقسى أن يَنكأَ الجرحُ نفسَهُ قبيل التئامه، أن يتلذّذَ بالتمدد في كل الاتجاهات كمن أضاعَ بوصلةَ شفائه، أن يُعرَفَ أوّلُه، دون أن يكون له آخِر ـ ص 228".. "يا لَهذا الوجع، وقد غدا كلَّ شيء ـ ص 252". في ظهيرةِ الجرح وغسقِ الوجع، يمضي حجي جابر بأبطاله في روايته "مَرسَى فاطمة" (المركز الثقافي العربي، بيروت ـ 2013) وبين أيديهم وطنٌ يتفلّت ويكادُ يغيب إلا من بقايا ذاكرةٍ هي الحرزُ يحفظُ أياماً وروائح تندى من شجرةِ الصِّبا؛ كلّما ارتقوا سلالمَ الألم وباحتْ بهم الحدودُ وتجهّمَهم الغريب.
"مَرسَى فاطمة" حكايةٌ عن الوطن: إريتريا الذي أنجزَ استقلاله لكنه لم يظفر بالتغيير؛ عن المواطنين الضحايا في معسكر التجنيد الإجباري داخل الوطن؛ عن المواطنين المتروكين في مخيمات اللجوء تنهبُهُم عصابات الاتّجار بالبشر وبأعضائهم أحياءً وأمواتاً. في هذا المرجل البشع داخليّاً وخارجيّاً، تتخلّقُ الحكاية التي وضعَ لها جابر إطاراً وأثراً يقرأ في خيوطه وخطوطه العسفَ والاستبداد والاستغلال وتأبيد الألم. البطل معلّم اللغة العربية ينزل من قريته إلى العاصمة "أسمرا"، بعد اشتداد وطأة الدولة على التعليم الديني واعتقال معلميه بشبهة الإرهاب، ليعمل في متجر للأقمشة عند الحاج برهان. وهناك يتعرّف على أغنيته وعلى قلبه؛ سلمى طالبة التعليم الثانوي التي يتزوّجها سرّاً وتحمل منه لكنها تغيب فجأة ولا يعرف أين ذهبت رغم السؤال والبحث في شارع "مرسى فاطمة" مكان اللقاء واشتعال الحب حيث تقع مدرستها. يظنّ أنّها رُحّلتْ إلى معسكر التجنيد في "ساوا" فيقرّ عزمه على الالتحاق بها وهو المعفي من التجنيد. تبدأ رحلة البحث المتوالية عن سلمى التي لا يجد لها أثراً في رحلة العذاب الرهيبة، ليكتشف في النهاية أنّها لم تُرحّل إلى "ساوا" وأنها كانت مختبئة في أسمرا، وعندما علمت باتجاهه للبحث عنها أيضا؛ أخذت الرحلة نفسها خلفه. دائرة من البحث المزدوج المتعاكس الاتجاه. البطل يبحث عن سلمى. سلمى تبحث عن البطل.
هذا الإطار الذي تتنزّل فيه أحداث الرواية ليس إلا حيلة سرديّة، وذريعة للكشف عن عالمٍ شديد الظلمة والظلم في الوطن حيث معسكر "ساوا" وقسوة الحياة فيه يديرها قائد الفرقة الضابط "منجوس" الذي يتعامل مع المجنّدين والمجنّدات بوحشيّة تحطّ من آدميّتهم وتعوّمهم في الانتقام والابتذال والسُّخرة لصالح الضباط الذين يتعيّشون من ريع المنصب فيما البقية تُهدَر إنسانيّتهم، فيصبح الوطن أمامهم سجناً يدفعُهم إلى الهرب مهما كان الثمن وتكلفته المدفوعة من كرامتهم وأبدانهم. وهنا المرتقى الثاني لحكاية الضحايا المدفوعين من نار الوطن إلى نارٍ أشدّ ضراوة تكويهم ويتلظّوْن منها خارج الوطن حيث العصابات على الطريق وفي الحدود.
العذاب في خطى الهاربين، الناجين موقتا. تتحلّقهم "دولة الشفتا".. بدوٌ مهرّبون يتلقون الهاربين، يتاجرون بعذاباتهم ويستغلونهم أبشع استغلال.
دورة العذاب لا تفتر في مخيم اللجوء؛ "شجراب" بالسودان نتابع أحداث حرق خيام اللاجئين لإجبارهم على الهجرة إلى إسرائيل عبر سيناء المصريّة وهناك يجري إخضاعهم للاغتصاب وسرقة أعضائهم التي تصل إلى إسرائيل قبلهم، هذا إذا لم يموتوا وسط العمليّات أو يصيدهم رصاص القنص المترصّد عبر السياج الفاصل والموصل إلى إيلات.
إذا كانت رحلة البحث تظهر مقدار الوجع الإريتري، إلا أنها تكشف مع كل محطة يصلُها البطل عن نماذج إنسانيّة هي شُعُل الأمل التي تبقى مضيئة تفتح الطريق وتنبئ عن وطنٍ يستقرُّ في الحلم وإن عاندتْهُ الوقائع. في أسمرا نجد الصديق "جبريل"، وفي معسكر ساوا نلتقي بـ"كداني" و"إلسا"، وفي "دولة الشفتا" نعثر على "أبراهام" و"زينب"، وفي مخيم شجراب يندلعُ الأمل مع "أمير" و"أم أوّاب" والطبيبة "كارلا". وإذا كنّا في كل محطة نشهد الأنياب الضارية تنشب في الجسد الإريتري وروحه، غير أنّ وقدةَ الأمل لها من يحافظ عليها ويفتح طاقةَ الاستمرار والعبور من خلال مجازٍ وصفَهُ الروائي بـ"الدائرة" التي وإن أشارت إلى التكرار سوى أنّ من ينتظم فيها لا بدّ أن يتقاطع مع غائبِهِ؛ وطناً أو حبيبة شأنَ نبتةِ الحنّاء أينما وُضِعَتْ رفعتْ رأسَها للسماء (ص 237).
* كاتب سعودي

بطل حجي جابر يغادر وطنه بحثاً عنه


 
 
 
بطل حجي جابر يغادر وطنه بحثاً عنه
سارة ضاهر 
 
 
نهاية الحلم، تبدأ رواية «مرسى فاطمة» (المركز الثقافي العربي) للكاتب الإريتري حجي جابر، الحائز جائزة «الشارقة للإبداع العربي» عن روايته «سمراويت» (2012). يستهل الكاتب روايته بهذا الحلم ليشي بالمدلول الرمزي للمشكلات والصعاب التي تنتظر البطل وحبيبته خلال مجريات السرد. وارتفع هذا الاستهلال- الذي استطاع من خلاله الكاتب أن يكثف موضوعه في شكل رمزي- بالعمل إلى مستوى الاستعارة الأدبية القادرة على اختراق حجب الزمن وعلى تلخيص وضع إنساني أليم خارج إطار اللحظة الزمنية التي تتناولها الرواية وخارج حدود الواقع الجغرافي الذي تصدر عنه.
يلعب التمهيد للرواية بهذا الحلم دوراً مهماً في بنيتها السردية، ليس فقط لأنه ينطوي على تلخيص كامل للموضوع الروائي، إذا شئنا استخدام هذا المصطلح، وإنما لكونه يستوعب أيضاً، في إطار بنيته التي تقترب من بنية الأمثولة الرمزية (اليغوريا)، بنية العمل الروائي برمته. إنه يطرح هذه البنية في شكل تراجيدي يتساوى مع طموح الرواية في تسجيل رغبة البطل في لقاء حبيبته سلمى. هكذا سافر وتغرب ظناً منه أنها سافرت، في حين أنها لا تزال في «مرسى فاطمة»، وأخذت بدورها تتعقب أثره.
تكشف رحلة البحث هذه بذور مفهوم غامض للأحداث الاجتماعية، يقترب من النظرة المادية التاريخية أو الحتمية العلمية. فكأن المؤلف أحس بأن الإنسان هو نتاج مجتمعه وظروفه التاريخية، فأتى الزمن عنصراً دائم الحضور في جوانب الرواية كلها. والزمن عند حجي جابر ليس تتابعاً لما يمكن قياسه بالدقائق أو الساعات، كما أنه ليس بالبعد الميتافيزيقي الذي يقوم كحد للوجود وكنطاق لسير الأحداث، بل إنه طاقة حية وقوة داخلية فاعلة في النفس الإنسانية.
تقع أحداث الرواية في تواريخ متسلسلة، ما عدا بعض المرات التي كان يسترجع فيها البطل لقاءاته مع حبيبته سلمى: «بينما أخذتني لحظة السعادة النادرة هذه إلى أحضان سلمى... عدت إلى خيمتي، وأنا أسترجع كيف باغتتني سلمى بفكرة مجنونة...». ويُمكن أن نلحظ ايضاً في كل مرحلة من مراحل السرد، ظهور عامل إيجابي (مساعد) يسهل أمام البطل مهمة تجاوز محنته: بداية من خلال جبريل الذي ساعده على السفر إلى «ساوا» ليلقى سلمى. ومن ثم يظهر كداني ليخلصه من هذا المكان، ويسهل له فكرة هروبه... وفي مرحلة لاحقة، تُساعده أم أو أب على تخفيف ألمه وتحمل عذاباته. وأخيراً يظهر أمير، الذي يتخلى عن عرض السفر إلى إيطاليا لمصلحة صديقه بطل الرواية. أما العامل «المعاكس» فهو عدم وجود أي أثر لحبيبته سلمى.
ويُمكن القارئ أن يلحظ حضوراً بارزاً لعنصر المكان على مسرح السرد الوجداني لصور اجتماعية أليمة: دولة «الشفتا»، حيث اعتقل في الحاوية وهي تضج بالمرضى والمستضعفين، ثم في سجن الحرس السوداني، تالياً الشجراب، حتى وصل إلى «سيناء» وأصبح على مقربة من إسرائيل التي رفض الدخول إليها، قبل أن يعود إلى نقطة الانطلاق «مرسى فاطمة». وفي رحلة القهر والسجن والتعذيب هذه، يتحول الإنسان إلى مجرد رقم. يقول أحد الجنود لأم أو أب «أنا أعرف رقمك سيدتي، ألست 601؟ أنا أسأل عن رقمَي الشابين».
تحمل رواية «مَرسى فاطمة» شهادة صريحة وجريئة في أوضاع المجتمع الذي تصوره: الحب، السجن، الفقر، الظلم، الاتجار بالبشر ...
وإن كان التحديد الكلاسيكي للرواية يقوم على سرد الحوادث المتشابكة والمتفاعلة في تطورها من العقدة الأساسية إلى الهيكل أو النهاية. نرى أن حجي جابر تحرر من كلاسيكية هذا التحديد ليجعل من مقدمة روايته، أو من إطار واضح الزمان والمكان، موقفاً وجدانياً يخطر عبره أشخاص يستمدون حيويتهم من عاطفة حب تعصف بقلوبهم، لا مما يفرضه السرد الروائي المتدرج، وتتراءى من خلاله أحداث تولد وتموت بين صفحات الكتاب. ففي الرواية نماذج بشرية حية، يُبرز الكاتب نتوءات شخصياتها بحركة، أو مناجاة، أو حوار قصير. ويمر قلمه على مجتمعه بوصف يتضمن ما يتضمنه من وعي للحقيقة وللواقع المفجع، ما يسبب هواجس لـ «أنا» المواطن، الذي يبحث عن خشبة خلاص في بلاده. وقد تجسدت، هنا في سلمى، التي هي كما يروي البطل «حلم بحجم الوطن، بين يديها أشعر بالأمان، ولجبينها الأسمر أنتمي. سلمى لغتي وحدودي وخريطة وعيي واحتياجاتي».
إن قارئ روايات «حجي جابر»، يُدرك أن هذا الكاتب متمكن من الأصول الروائية، الكلاسيكية منها والحديثة. وفي «مرسى فاطمة»، لم يتفنن الكاتب في موضوعه، بل قدم ببساطة موضوعاً عادياً يلم به كل مَن عاش في تلك البلاد.
وإن كانت الرواية تقوم على حدث واحد، هو غياب سلمى المفاجئ، إلا أن الكاتب قدم صوراً متناثرة من حياة بلده الذي عاش فيه... كانت تلك الصور عبارة عن لوحات تعكس حوادث ووقائع حصلت هنا وهناك على أرض بلاده. أما عندما تنتهي الرواية، فتخرج فارغ الرأس من كل هذا، ولا تسيطر عليك إلا صورة واحدة وشاملة: صورة مواطن يبحث عن وطن له.

حجي جابر للقدس العربي: الشعر سابق على الرواية في إرتريا






أجرى الحوار محمد مسوكر:
على الساحل الغربي للبحر الاحمر يطغى السياسي على باقي تفاصيل المشهد الانساني الزاخر بالثقافة، فينتشر المصطلح السياسي ‘القرن الافريقي’ ليحجب الصورة.
الروائي الاريتري حجي جابر ابن هذا الساحل، مواليد مدينة مصوع، ونشأ وتربى في مدينة جدة السعودية على الساحل الشرقي للبحر، وصاحب رواية ‘سمراويت’ التي نالت جائزة الشارقة 2012 وبمناسبة صدور روايته الثانية ‘مرسى فاطمة’ وكلاهما صدرتا عن المركز الثقافي العربي التقته ‘القدس العربي’ في هذا الحوار:


‘ الأدب العربي في إفريقيا يصنف ضمن مكتسبات اللغة العربية عبر الاجتهادات الفردية او أنه حاضر بضرورات الدين الاسلامي، هل القرن الافريقي يقرأ في ذات السياق أم أن الامر له خصائصه المغايرة؟
‘ سأتحدث هنا عن اريتريا لأن ثمة تعقيدات في الحديث عن القرن الإفريقي ككتلة واحدة.بظني أن لاريتريا خصوصية ما في إفريقيا عموما فيما يتصل باللغة العربية، فهي لغة رسمية في البلاد وحضورها أساسي في النسيج الاجتماعي والثقافي، وتتحدث بها شريحة واسعة، كما تدخل مفرداتها في تكوين معظم اللغات المحلية الاريترية الأخرى. ساهم في ذلك الهجرات العربية الواسعة من الجزيرة العربية إلى اريتريا، واحتكاك الإريتريين وسكان السواحل بالخصوص بمحيطهم العربي. وعليه فالأدب العربي قديم قدم العربية في اريتريا وإن كان قد اتخذ أشكالا عدة نحت باتجاه الأدب الشفاهي قبل أن يبدأ تدوينه. ومرور هذا الأدب بمراحل خفوت لأسباب كثيرة لا ينحدر به ليكون صنيعة اجتهادات فردية، أو حاضرا فقط لضرورات دينية.
‘ القرن الافريقي تعريف سياسي هل يصلح أن يكون هوية ثقافية يعرف بها الادب.
‘ باعتقادي أن القرن الإفريقي مصطلح يتوقف عند حدوده السياسية ولا يتعداه ليشمل الهوية الثقافية. فرغم محدودية عدد الدول المنضوية تحت هذا التعريف فإنها تزخر بلغات وهويات وثقافات شتى، قد تأخذ شكلا تنافسيا يصل لحد الصراع بعض الأحيان داخل البلد الواحد ناهيك عن مجمل المنطقة. تدخل في ذلك عوامل عدة قبلية ودينية وبعض ما خلفه الاستعمار. اريتريا وحدها على سبيل المثال بها تسع لغات، بعضها امتداد لثقافات تتجاوز حدود البلد، والقرن الإفريقي، ما يجعل من الصعب بعض الشيء الإمساك بهوية ثقافية واحدة لعموم البلاد. هذا الأمر موجود أيضا بشكل أو بآخر في دول القرن الإفريقي الأخرى. مع هذا كان يمكن لأي وحدة سياسية جادة بين دول المنطقة أن تخلق مناخا يتحرك فيه الأدب بشكل متقارب كأن يناقش قضاياه وهمومه وهذا قد يكوّن في النهاية هوية ثقافية بشكل أو بآخر.
‘ المجتمع الاريتري متعدد الالسن والأديان كيف تصف لنا ملامحه الادبية؟
‘ تعدد اللغات في اريتريا شكّل إثراء للأدب الاريتري بشكل عام، غير أن اقتصار اللغات المكتوبة على لغتين حصر الأدب الاريتري في مجمله داخل إطاره الشفاهي. فمنذ القدم يتوارث الناس الشعر والحكايات والأساطير المحفوظة في الصدور، دون أن تجد طريقها للتدوين. بينما وقفت ظروف أخرى قاهرة دون أن يتطور الأدب الاريتري داخل اللغتين المكتوبتين، كانت الحروب أبرز تلك الظروف.
‘ ما هو الوصف الدقيق لوجود اللغة العربية في إريتريا في ظل وجود ألسن خاصة؟
‘ موسى صالح مغن مشهور بلسان التقري وهي لهجة لعدد كبير من القبائل وهو رجل أمي الابجدية كان يشتري النسخة العربية لصحيفة اريتريا الحديثة وهو لا يستطيع قراءتها قائلا حتى لا يتحجج النظام بعدم وجود قراء لها ويغلقها، وذلك في تصديه للتهميش الممنهج الذي تتعرض له اللغة العربية من قبل القوى الحاكمة تلك هي العلاقة.
‘ المشهد الشعري في اريتريا سبق الرواية في تأكيد حضوره منذ عهد الثورة الاريترية على يد شعرا ء مثل محمد عثمان كجراي، وأحمد سعد، ومحمد مدني،وآخرون لماذا توقفت الرواية في إريتريا بعد رواية الاستاذ ناود وعاودت الظهور مجددا؟
‘ يبدو لي أن ذلك عائد لطبيعة الشعر كإبداع أدبي، وحالة شعورية. فهو متوائم مع حالة الإبداع الشفاهي التي سادت طويلا ونمت وسط بيئة خصبة، إذ كان للشعراء في اريتريا مكانة سبقت قيام الدولة وصيت عابر للقبيلة أو المنطقة. بينما الإبداع الروائي يتطلب ما هو أكثر ليبقى ويتطور، وهو ما كان شحيحا في الحالة الإريترية، فلا التجارب المحلية كانت كافية لتؤسس بيئة روائية، ولم تكن الظروف مواتية للاطلاع على تجارب الآخرين.
‘ السياسي والروائي الاريتري الراحل محمد سعيد ناود في روايته صالح التي صدرت قبل عقود تناول الحركة الطبيعية لانسان المنطقة بين السودان واريتريا وكتبت انت عن فكرة الانتماء والرحيل في روايتك ‘سمراويت’ التي نالت جائزة الشارقة للرواية العام 2012 هل الذات الاريترية تعيش هذا الهاجس الأمر الذي جعل الرواية في اريتريا تنحى هذا الاتجاه؟
‘ بظني أنها تعيشه مع اختلاف جوهري. فالعظيم ناود وجيله كان يتنازعهم الحنين إلى اريتريا التي لم تكن قد جاءت بعد. كان الاستقلال هو الحلم المنشود لجيل الآباء، بينما يعاني جيلنا من حالة أكثر تعقيدا، فقد جاء الاستقلال دون أن يتحول واقعاً ينعم به الإريتريون، ما جعل فكرة الانتماء قائمة، وحالة الحنين إلى اريتريا الحلم حية لا تخمد. وكان من الطبيعي ربما والحال هذه أن تنعكس هذه الحالة الشعورية الطاغية على الأعمال الإبداعية بوعي أو بدونه.
‘ هل جاءت ‘سمراويت’ مرافعة امام الثقافة والتاريخ والدين والبحث عن مأوى جديد للإنسان جراء قسوة الحاضر؟
‘ إلى حد ما، لكنها مع هذا لم تمثل حالة هروب كلي من هذا الحاضرالقاسي، أو هذا ما أردته لها على أقل تقدير. ثمة فضح لهذا السوء الذي يكتنف واقعنا الاريتري وتحريض على تغييره.
ثمة ضجيج تعمدته و أنا أمرّ على ما نعيشه. كنت حريصا على إسماع الآخرين ولفت انتباههم. وددت قبل ذلك إسماعنا نحن الذين أُصبنا بالاعتياد حتى على أكثر الأمور مأساوية.
برأيي أن اريتريا والاريتريين يستحقون ما هو أجمل. هذه العذابات يجب أن تنتهي. لا ينبغي أن نكتفي بالأمل بأن يتجنب أبناؤنا ما نعيشه. هذا تماما ما اكتفى آباؤنا بفعله. مع هذا كنت حريصا جدا ألا يجرفني موقفي هذا ليحوّل الرواية إلى منشور سياسي.
‘ في ‘مرســــى فاطمة’ كمــــا في ‘سمـــراويت’ الفكرة الأساسية للرواية تسير خلف علاقة عاطفية هل شخصية سلمى إمتداد لشخصية سمراويت؟
‘ سعيت قدر استطاعتي أن ُأخرج عملا مختلفا عن سمراويت، ولا أعرف إلى أي حد وفقت في ذلك. لكني مع ذلك أبقيت على الخيط الرفيع الذي يحيل لمعنى الأنثى في نصوصي. هذا الخيط الذي قبض عليه القارئ في سمراويت سيجد امتداده لدى سلمى، مع أجواء مختلفة بالطبع.
‘ هل رواية ‘مرسى فاطمة’ تتحدث عن غياب الدولة وأجهزتها في السودان واريتريا أم أنك تساويهم بالدولة الثالثة القابعة في الحدود عصابات الاتجار بالبشر وتصديرهم إلى الكيان الصهيوني عبر سيناء؟
‘ فعلت هذا وذاك. في لحظة ما تصل لقناعة أن مجرد التوقف عند هذا السؤال هو عبث طالما كانت النتيجة واحدة. ما معنى أن يجد الإريتري خلاصه من عذابه بعذاب أكبر؟ ما معنى أن يكون الضحية لآخرين مهما اختلف الزمان أو المكان؟ هناك تنافس محموم بين الحكومة الإريترية وعصابات الاتجار بالبشر في التنكيل بالشعب الاريتري. لا يمكن تخيل مدى التطابق في أساليب هذا التنكيل ولا مدى بشاعته. الناجون وحدهم يحملون عذاباتهم كوشم ملتصق بأرواحهم المنهكة.


مرسى فاطمة".. خيبة عاشق ورثاء وطن

 
 
 
مرسى فاطمة".. خيبة عاشق ورثاء وطن
هيثم حسين
يتتبع الكاتب والصحفي الإريتري حجّي جابر في روايته "مرسى فاطمة" مسارات بعض الإريتريين الحالمين والهاربين. يرتحل بطله بين عدة أمكنة، وفي كل مكان بالجوار الإريتري ظلم وقسوة واستغلال وهروب مستمر من عصابات الاتجار بالبشر، وعالم آخر موبوء بين "كذبة الوطن" وقسوة المنفى.
 
بطل "مرسى فاطمة" الصادرة مؤخرا عن "المركز الثقافي العربي ببيروت" شاب إريتري ينتقل من قريته الجبليّة الوادعة إلى ضجيج أسمرا، يعاني قليلا في سبيل أن ينزع رداء معلم الخلوة، ليغرق في سوق المدينة بائعا في متجر للأقمشة، حيث يعمل عند الحاج "برعان" الذي يخفف عليه صدمة التحوّل الكبير، ثمّ يأتي صديقه جبريل ويمنحه فرصة التأقلم مع أسمرا، مع أضوائها، وناسها، وحكاياتها التي لا تأتي متشابهة أبداً.
 
يحاول جبريل إخراجه من حالة الخيبة التي تملكته. يعتاد البقاء في مرسى فاطمة بانتظار حبيبته التي يشاع خبر اختفائها ويروج أنها رُحّلت إلى ساوا أو السودان. فيقرّر تتبّع مسارها المظنون، يبادر إلى التطوع بالخدمة، رغم إعفائه منها، يدرك أنه لن يصبح في نظر الناس بطلا، أو مناضلا كامل الوطنية، لأنهم سيعرفون لاحقا أنه ما فعل ذلك إلا للحاق بحبيبته، فلا شيء في أسمرا يبقى سرّا إلى الأبد.
 
يحذره صديقه من مغبّة ما يقدم عليه وخطورته، وينبّهه أنّه يحكم على نفسه بحياة أبديّة في إطار العسكرية، وأنه سيقضي عمره في ميادين التدريب متنقلا بين حمل السلاح وموادّ البناء. وحين يتقدم بطلبه للالتحاق بالعسكرية يثني عليه الضابط ويخبره بأنه ليس كأولئك الخونة الذين يتهربون من الخدمة الوطنية.
 
يرصد جابر آثار الاحتلال الإيطالي وتأثيراته العميقة في بنية المجتمع، ثم يلتقط محاولات تصحيح متأخرة للصورة القديمة
 

 
وطن ضائع
ضواحي أسمرا التي يثني عليها الروائي من خلال شخصيّاته لم تكن في الحقيقة إلا مرسى فاطمة. ويخبرنا على لسان شخصيته بطرس أن مرسى فاطمة اسم أطلقه "الجَبَرتة" على الشارع تيمنا باسم جزيرة مباركة قرب مصوّع سكنتها امرأة صالحة من نسل الصحابة، ليحل محلّ اسم الإمبراطورة "مِنِّنْ" زوجة "هيلاسلاسي"، والتي اختارته دون سواه ليحمل اسمها.
 
ويشير إلى أن الشارع يبدأ بكنيسة "إندا ماريام" وتنتهي تفرعاته عند جامع الخلفاء الراشدين، وقد بناه الإيطاليّون بأموال تاجر يمنيّ استوطن أسمرا. ويذكر أن مرسى فاطمة يمثل وطنا رحبا لكل سكانه.
 
يصادق في ساوا "كداني" الذي يبدو واسع الثقافة والاطلاع، يقرأ فصولا من "مزرعة الحيوان" لأورويل، يجري مقارنات بين ما يرِد فيها والواقع الذي يعيشه ويعاني منه. يشاركه ألمه، يتأثر له وهو يحكي له خيبته بفقده سلمى التي يصفها بأنها بالنسبة له مشروع بحجم الوطن، وأنه بين يديها يشعر بالأمان، ولجبينها الأسمر ينتمي، وأنها لغته وحدوده وخريطة وعيه واحتياجاته.
 
يصارحه كداني بأنه يعمل ضمن جماعة تنشد العدالة التي لا تعني توزيع الظلم بالتساوي. وأنهم يناضلون لتغيير البلاد نحو الأفضل. ويدين ما يقال إن البلاد تعيش حالة بين الحرب والسلم. لأنّه يرى أنها حالة لإدامة استغلال الناس. ويبوح له بمرارة أن "الوطن كذبة بيضاء، يروج لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة". هذه المقولة التي يمهّد بها الروائي لروايته.
 
بعد سلسلة محاولات للعثور على سلمى وفشله بذلك، يقرّر بطل حجي جابر الهرب، والتوجّه نحو السودان، باحثا عن حبيبته، فيقع في قبضة "الشفتا" الذين يتحكّمون بالناس. يصفهم بأنّهم بدو رحل قدموا إلى السودان بعد أن ضرب الجفاف مناطقهم، وتكالبتْ عليهم قوّات الأشراف فطردتهم من ديارهم. وأنّهم يعيشون بين السودان وإريتريا.
 
يكتشف أنهم يأسرون الناس ويعطونهم مهلة لدفع ما عليهم، قبل أن يرسلوهم إلى سيناء المصرية. حيث لديهم قسم يعمل في تجارة تهريب البشر إلى السودان، وهي تجارة رائجة كما ترى، لكن القسم الآخر يعمل في تهريب البضائع والأسلحة من السودان وإليه، وهؤلاء يحظون بحماية من جنرالات نافذين.
 
يظل مرسى فاطمة، مبتدأ الحكاية ومنتهاها، منه تبدأ كل المسارات، وإليه تنتهي

 
تجارة البشر
يبلغ العاشق الهارب مخيم "الشجراب" بعد درب شاق. كان الفضول يسكنه لرؤية ملاذه الأخير. هناك يتعرّف إلى أمير وأمّ أوّاب، ويتفاجأ بأن حلم كل لاجئ هو الحصول على بطاقة مفوضية اللاجئين، وهو ما يعني أنه تمّ الاعتراف به لاجئا وبالتالي تصرف له مؤونة شهرية لا تغطي إلا عدة أيام. لأن المفوضية ومنذ استقلال إريتريا أسقطتْ صفة اللجوء عن اللاجئين الإريتريين، وعقد اتفاق لم يطبّق بين الحكومة الإريترية والحكومة السودانية.
 
يخبره أمير أن المشكلة الكبرى تتمثل في الشباب الذين يقررون الإفلات من الواقع المؤلم بالوقوع في فخ سماسرة الهجرة إلى إسرائيل. وأنه لا يملك أن يلومهم لكنه يتمنى من كل قلبه أن يكونوا حذرين جدا وهم يدخلون بيت الثعابين ذاك. ويقر له بأن المخيم لم يعد آمنا لكنه أهون الشرين.
 
يجد العائد من الموت والضياع والباحث عن الفردوس المفقود أن الوطن هو الفردوس رغم كل الممارسات الشائنة التي تتم باسمه وبحق أبنائه، تكون دائرة العودة مغلفة بالأمكنة التي مر بها، يشعر أن سلمى أيضا، كانت دائرة وسط كل تلك الدوائر، غير أنها كانت تتبع مسارا مغايرا. ويرتاح لظنه أن فاطمة ستعاود المرور بمسارها الذي سلكته أول مرة.
 
يرصد صاحب "سمراويت" آثار الاحتلال الإيطالي وتأثيراته العميقة في بنية المجتمع، ثم يلتقط محاولات تصحيح متأخرة للصورة القديمة، كمحاولة الفتاة ماريا التي تسعى في المخيم إلى مساعدة العاشق الحائر، عبر تأمين ملاذ له في إيطاليا، لكنه يرفض العرض، ويفضل العودة إلى وطنه رغم ما يتهدده من مخاطر وما ينتظره من أهوال.
 
يفضل بطله العودة إلى مرسى فاطمة ليجد أن كل شيء يبدو دائريا، وأن رأسه أيضا كانت تسكنه دوائر كثيرة. ينشغل بتتبع تلك الدوائر دون أن يكون متعجلا، لأنه يعتقد أن الحياة داخل دائرة، مهما بدت كبيرة، لا اعتبار فيها للزمان، بعد أن استأثر المكان بكل شيء.
 
ويجد نفسه مرتاحا جدا رغم كل التعب. لأن الدائرة تمنحه الشعور بالاعتياد لفرط انتظام كل شيء فيها، وتكراره. ويظل رسى فاطمة مبتدأ الحكاية ومنتهاها منه تبدأ كل لمسارات، وإليه تنتهي
 

Friday, June 21, 2013

"مرسى فاطمة".. رواية توثق لضحايا عصابات الاتجار بالبشر

"مرسى فاطمة".. رواية توثق لضحايا عصابات الاتجار بالبشر

 
جدة – حسن حاميدوى
صدرت حديثاً عن دار المركز الثقافي العربي في بيروت، للكاتب والروائي الإيرتري حجي جابر، رواية "مرسى فاطمة" والتي ترصد في 256 صفحات من القطع المتوسط، مسارات حيوات مئات من الشباب ممن خاضوا تجارب قاسية، مليئة بتفاصيل عالم غريب، محتشد بالخطف والقتل وسرقة الأعضاء البشرية، بعد أن تلقفتهم عصابات الاتجار بالبشر، ابتداء بإريتريا والسودان و مرورا بسيناء مصر وانتهاء بإسرائيل.
وتتناول الرواية التي تدور أحداثها في فضاءات وأمكنة بلا جماليات، حالات التناقض الإنسانية لشبان بحثوا عن حرية اضطرتهم لأن يكونوا ضحايا لتلك العصابات، عبر مشاهد مستمدة من الواقع الذي عايشه أبطال القصة، حيث استطاعت الرواية أن تشيّد بناء خاصا، لواحدة من أبشع الجرائم الإنسانية، من خلال توثيق واستقصاء ولقاءات متكررة مع العديد من الضحايا ممن تمكنوا من الخروج أحياء يرزقون.
وتطرقت الرواية عبر مشاهد سردية إلى أحوال تلك العصابات وما تحكمها من قوانين، وغاصت بجرأة في دواخل نفوس أفرادها، لتحلل نظرتهم إلى الحياة والناس، ولتتعمق وراء أمراضهم النفسية ورغباتها المجنونة في اقتراف الفظاعات، فيما اعتمد الراوي في ذلك على الفنون الصحفية وتقنياتها، والوصف الدقيق للشخصيات والأجواء التي تقع فيها الأحداث، ليقدم بذلك حبكة درامية أسهمت في عكس الواقع بكل تفاصيله المؤلمة.
من جهته ، اعتبر الكاتب حجي جابر، أن "مرسى فاطمة" تعد الرواية العربية الأولى التي ترصد وتوثق ضحايا عصابات الاتجار بالبشر (بالقرن الافريقي) ، مضيفا في حديث خاص لـ"العربية.نت"، إن "مرسى فاطمة" عبارة عن أحداث واقعية انتهجت التحليل القصصي لأبطالها، واتكأت على العديد من الحقائق والروايات، التي تأخذ القارئ إلى تجارب قاسية لهذا العالم الموبوء بالبشاعة فوق قدرة الإنسان على الاحتمال بجرائم الاتجار بالبشر والتي أصبحت حدثا يوميا في حياة الإرتيريين بشرق السودان. وأضاف جابر قائلا "أتمنى أن تكون "مرسى فاطمة" إضافة جادة إلى المكتبة العربية، وأن تعمل على جسر الهوة بين الأدب الإريتري المكتوب بالعربية والقارئ العربي في كل مكان
http://www.alarabiya.net/ar/culture-and-art/2013/06/18/-%D9%85%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D8%A7%D8%B7%D9%85%D8%A9-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D8%AB%D9%82-%D9%84%D8%B6%D8%AD%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%B9%D8%B5%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1-.html.